منتديات الكعبة الإسلامية

منتديات الكعبة الإسلامية (http://forum.alkabbah.com/index.php)
-   منتدى سيد الخلق عليه الصلاة والسلام (http://forum.alkabbah.com/forumdisplay.php?f=20)
-   -   معركة الخندق واستنطاق التجربة في الحاضر (http://forum.alkabbah.com/showthread.php?t=40520)

NESR 03-29-2017 11:31 AM

معركة الخندق واستنطاق التجربة في الحاضر
 

معركة الخندق واستنطاق التجربة في الحاضر


يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً* إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً* وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سُئِلوا الفتنة لأتوْها وما تلبثوا بها إلا يسيراً* ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلا قليلاً " [الأحزاب:9ـ16]. " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً" [الأحزاب:22ـ23].


نزلت هذه الآيات لتتحدث عن معركة فاصلة حاسمة بين المشركين والمسلمين، وهي معركة الخندق، وتسمى بمعركة الأحزاب، والتي حدثت في شهر شوّال، ونحن إذ نستعرض بشكل سريع هذه المعركة فمن أجل أن نقارن بين واقع المسلمين في الماضي وبين واقعهم في الحاضر، وطبيعة الأوضاع التي كانت تسيطر على تلك المرحلة من حياة المسلمين، سواء لجهة الدور الذي لعبه أعداء الإسلام والجهات المندسّة في داخل المجتمع الإسلامي من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، ممن كانوا يمثلون القوة النفاقية التي تنسق مع المشركين ، وتعمل على إثارة الفتنة في داخل الواقع الإسلامي، أو لجهة نصر الله المسلمين بعد أن أصيبوا بزلزال نفسي وخوف حقيقي، ومن بعد حصار لم يشهدوا له مثيلاً في كل تاريخ صراعهم مع المشركين، لكن الله سبحانه وتعالى كان معهم وهيّأ لهم العوامل الطبيعية التي ساهمت في تحقيق الانتصار، في حين كانت مفاجأة للمشركين وصدمة كبيرة لهم.
الإمداد الغيبـي :


فالله تعالى يبدأ هذه الآيات بعرض الواقعة: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها"، عندما هاجمتهم جنود المشركين وحلفاؤهم من اليهود كانت النتيجة أن أرسل الله عليهم ريحاً قاسية شاتية أثارت الرمال، فأضحى الإنسان معها لا يرى صاحبه، مما أفقدهم التماسك، وجعل أبو سفيان يأمر جنوده بالرحيل.

ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنه أرسل جنوداً لم يروها، وهي كناية عن الملائكة التي عملت على إيجاد نوع من التوازن في الموقف، ولم يبين الله لنا الطريقة، لأنه غيب من غيب الله أخبرنا الله به ولا نملك تفاصيله، ولذلك فإن علينا أن نؤمن به وإن لم نعرف كلَّ مفرداته ودقائقه ، ويصوِّر القرآن الكريم لنا كيف كانت حالة المسلمين، لأنه يريد أن يعطينا الصورة حتى نتمثلها في المستقبل في كل صراعاتنا مع أعداء الله، وهذه هي قيمة القصة القرآنية التي لا تريد أن تدخلنا في التفاصيل كلها على طريقة القصص التي يلهو بها الناس، ولكنها تريد أن تركز على مفاصل القضايا التي يمكن أن تحدث في أية حالة من الحالات، ليتعلم المسلمون على مدى التاريخ كيف يواجهون الحالات المماثلة، وبالطريقة التي لا يسقطون فيها أمام الحصار والضغط، بل يتطلعون إلى غيب الله بالإضافة إلى ما يتحركون فيه.





إنّ المشكلة التي قد يعيشها المسلمون وغيرهم من الناس أنهم يرتبطون بالجانب الحسي من الأشياء، يعني دائماً أننا نُدخل في الحسابات ما يملك العدو وما نملك نحن، العدو أقوى منّا سلاحاً ونحن أضعف منه، العدوّ يملك امتدادات في الساحة الدولية ، ونحن لا نملك مثل هذه الامتدادات، العدو يجتمع على باطله ونحن نتفرق عن حقنا، فالله سبحانه وتعالى لا يمنعنا من أن ندخل في الحسابات المادية، ولكنه يعرّفنا أن هنالك حالة غيبية إلهية، يجب أن ننفتح من خلالها على الله، ولكن بعد أن نصبح على أتمِّ حالات الاستعداد لنقول له انصرنا على القوم الكافرين، لنقول له أعطنا من غيبك، كما فعل المسلمون في بدر: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين" [الأنفال:9].




ومن هنا، علينا كمسلمين، ومن خلال إيماننا بالله سبحانه وتعالى، في كل تاريخ صراعاتنا، أن لا نغفل الإمداد الغيبي الذي يمد الله به عباده المؤمنين إذا أخلصوا له ، ولو فكّر كل واحد منّا في كل تاريخ حياته، لرأى أن الله سبحانه وتعالى كان يرعاه بطريقة لم يحسب لها حساباً، وكان يرزقه من حيث لا يحتسب، وكان يحرسه من حيث لا يحترس، وكان يخلّصه من البلاء في الوقت الذي يظن فيه أنه ليس هناك خلاصٌ من البلاء، ليدرس كل واحد منكم تاريخ حياته، وسيجد أن في حياته إمداداً غيبياً إلهياً لا يعرف من أين أتى، وكيف تحرك.


هذا الإمداد الغيبي الإلهي هو أمرٌ يمثل الحقيقة، إن على مستوى واقع المسلمين الفردي، أو على مستوى واقعهم الجماعي، ولهذا نجد أن الله يقول: " ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [الطلاق:2ـ3]، قد يبتلينا الله، ولكنّه في الوقت نفسه يخرجنا من مآزق كثيرة ومن مشاكل كبيرة، لا ندري عوامل نشوئها والمؤثرات التي تركتها؟!

لقد أودع الله في الحياة سنناً كونية وقوانين طبيعية، ولكن الله لم يجعل الناس يعيشون تحت ضغط هذه السنن والقوانين بشكل حديدي، بل إنه سبحانه وتعالى يهيىء لهم سبيل الفرج والرحمة "سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً " [الطلاق:7] "إن مع العسر يسرا " [الشرح:6] " لا تقنطوا من رحمة الله " [الزمر:53] " ولا تيأسوا من روح الله" [يوسف:87].

ويركِّز سبحانه وتعالى دائماً على هذا المعنى، وأن على الإنسان أن يعيش على أساس أن لا تضغط عليه الأشياء المادية ، ولهذا لا يمكن لمؤمن أن ينتحر، لأن مسألة الانتحار إنما تنطلق عندما يختنق الإنسان في ظروفه من كل جهة، والإنسان المؤمن لا يمكن أن يختنق أبداً " يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" [يوسف:87].

ولهذا أحب أن أخاطب الشباب قبل الكبار، لأن تجارب الكبار في الحياة تجعلهم يحسون بسعتها أكثر من الشباب، خصوصاً من كان منهم في سنّ المراهقة، ولم يملك تجربة كبيرة في الحياة، فيتصور أنها محصورة في جانب دون غيره من الجوانب، فيما الحياة تتسع لكل المراحل، من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الشقاء إلى السعادة، ولذلك فإن عملية اليأس ليست واقعية من خلال طبيعة الحياة، لكن بعض الناس هو من يسجن نفسه في دائرة لا يسعى للخروج منها إلى دائرة أخرى، على الرغم من توفر الفرص والظروف.

وفي مسألة الإيمان بالله، فإن الكون كله يتسع لك، لأن "الله على كل شيء قدير "، إذ لا مشكلة إلا ولها حلّ، فالله لا يمكن أن يبتلينا دون أن يوجد لنا حلولاً لمشاكلنا، لكنه سبحانه وتعالى لا يتصرف في الكون على أساس مصلحة الفرد، وإنما يتصرف على أساس المصلحة العامة والحكمة العامة للناس ، وقد يرى سبحانه أن من المصلحة العامة أن يبتليك دون أن يحل لك المشكلة، وفي هذا الإطار لا تستطيع أن تقول إن هذه المشكلة لا حلّ لها، لأن "الله على كل شيء قدير"، وأن يعمل الله أو لا يعمل فهذا راجع إلى حكمته سبحانه وتعالى.


الزلـزال الشديـد :


كانت وقعة الخندق تمثل مشكلة من أصعب المشاكل التي مرت على المسلمين، ولذلك سنحاول أن نرسم صورة الواقع الذي سبق وقوعها، لنلج بعد ذلك إلى الآيات لنعيش أجواءها، حيث كان مجتمع المدينة يضم في تشكيلته ـ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلى جانب الأوس والخزرج عدداً من القبائل اليهودية من بني قريظة وبني القينقاع وبني النضير، وكان هؤلاء يمتلكون مواقع استراتيجية مهمة، كما كان يوجد خارج المدينة اليهود من غطفان وخيبر والمشركين من القبائل، خاصة قريش.


ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأولوية في صراعه للمشركين، فإنه عندما دخل المدينة أقام معاهدة بين اليهود وبين المهاجرين ومختلف عوائل المدينة، وكانت بذلك أوّل وثيقة تركز معنى الدولة، وعلى هذا الأساس دخل اليهود في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عندما يخرج إلى الغزوات يشعر بالاطمئنان لوجود هذا العهد، بحيث لا ينقضه هؤلاء، لأن هناك تعايشاً بينهم وبين المسلمين آنذاك، ولكن بعض اليهود من بني النضير أو من آخرين فكّر أن بمستطاعه أن يخلق حرباً جديدة بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم حسب رواية، أو كما جاء في رواية أخرى، حيث كان المشركون يفكرون بالهجوم على المدينة واقتلاع الإسلام من مواقعه الأساسية، وجاء اليهود ليثيروهم، أو لينسِّقوا معهم، ورحبت قريش باليهود الذين لعبوا دوراً مثيراً في قضية الصراع، حتى إنه يقال بأن قريشاً عندما سألت اليهود عن الأهدى، فجاء رد اليهود بأنكم الأهدى، وقد قال تعالى عن هذه المسألة: " ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" [النساء:51].


وقد زجّت قريش كلّ طاقاتها في المعركة، يعضدها أحلافها في الجزيرة العربية، بعد أن انضمّت إليها جماعات اليهود، ولم يبق إلا بنو قريظة خارج هذا التحالف، لأنها كانت مرتبطة بميثاقٍ مع المسلمين، ولذا حاول اليهود من بني النضير دفع قريظة إلى نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فامتنعت عن ذلك، ولكن الاستمرار في حالات الإقناع مكّنهم أخيراً من إقناعها بنقضه، بعد أن أغروهم بأن محمداً سيسقط جراء الحشد الهائل الذي تقدمت به قريش وأحلافها في المدينة.


سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حصل، فأرسل شخصاً ليتأكد من صحة القضية التي سرعان ما اكتشف بأنها صحيحة، وهنا أصبح الاحتراز واجباً "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم"، ما جعل المسلمين يعيشون حالةً من الإرباك، لأنهم أصبحوا محاصرين من جميع الجهات، وعاشوا الرعب والخوف "وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر"، حيث كان يشعر الشخص عندما يرتجف قلبه ويخفق خفقات سريعة، كأن قلبه وصل إلى حنجرته من شدة الاهتزاز، وهذا ما أدخل المسلمين في حالة من الظن بالله "وتظنون بالله الظنونا "، إذ فقدوا كل أمل لهم بالنصر وهم على هذه الحال من الحصار المستحكم، كما فقدوا الأمل بالبقاء.


حـرج المنافقيـن :


كانت هذه محطة ابتلاء "هنالك ابتلي المؤمنون ـ في هذا الواقع الجديد ـ وزلزلوا زلزالاً شديداً ـ زلزالاً نفسياً ـ وإذ يقول المنافقون ـ الذين وقعوا في حرج شديد، ما جعلهم يستغيثون بهذا وذاك ليركزوا مفاهيمهم ويخربوا الحالة الإيمانية في نفوس المؤمنين إن استطاعوا ـ والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ـ فهم عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون حراكاً من بيوتهم شككوا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعدهم بأنهم سيصلون إلى مدائن كسرى وقيصر ـ وإذ قالت طائفة منهم ـ من هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض ـ يا أهل يثرب ـ وهو اسم المدينة قبل أن تسمى بالمدينة ـ لا مقام لكم ـ لا مجال لكم ـ فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي ـ تحت ستار أن البيوت مكشوفة، لكي يسمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من المعركة ـ يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ـ .

وقد كانوا يبغون من ذلك الفرار ـ إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ـ يعني جاءوا من جميع الجوانب ـ ثم سئلوا الفتنة لأتوها ـ أما في حال طلب منهم أن يخلقوا الفتنة في داخل المجتمع المسلم للتنسيق مع المشركين لجاءوا مسرعين ـ وما تلبثوا بها إلا يسيراً ـ يقول هؤلاء الناس الذين يخافون ويستأذنون النبي ـ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار ـ أن يبقوا صامدين في وجه التحديات ـ وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ـ فلو فررتم من الموت أو القتل فإن الموت ملاقيكم "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" [آل عمران:154] ـ "وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً".


الأسـوة الحسنـة :


ويعطينا الله سبحانه وتعالى صورة الجانب الآخر: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " كيف كان صامداً وقوياً وصلباً، فلم يهتز ولم يسقط، مع إنه كان هو المقصود بالدرجة الأولى من كل هذه الأحزاب، وعليكم أن تقتدوا به لتكونوا الأقوياء كما هو قوي، وتكونوا في مواقع الصلابة والشجاعة كما كان هو في مواقع الصلابة والشجاعة " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً* ولما رأى المؤمنون الأحزاب" هذه الأحزاب التي اجتمعت من كل البلاد "قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله"، بأننا سنجابه كل المشركين وكل أعداء الله، لأنه سبحانه وتعالى كتب علينا الجهاد، لذلك قال ستدعون إلى قوم "أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" [الفتح:16]. وفي مواجهة التحديات "وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً"، إذ لا يسقط المؤمن أمام كل التحديات، لانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، على طريقة نبي المؤمنين وإمامهم الذي يقول لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا".


مواجهة الاختراق بحفر الخندق :




قدّم القرآن الكريم لنا الصورة التي استطاع فيها المشركون أن يخترقوا المسلمين، ومواجهة المسلمين لهذا الاختراق، وهذه حالة موجودة في حياة كل المؤمنين المجاهدين الذين قد يخترق العدو صفوفهم من خلال بعض نقاط الضعف، فيسيطر على مواقعهم، وهنا لا بد أن يستعدوا ليواجهوا هذا الاختراق بطريقة يجعلون فيها العدو يلاقي الهزيمة ، وهذا ما واجهه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، كما كان الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك "وشاورهم في الأمر" [آل عمران:159] فأشار عليهم سلمان الفارسي بحفر الخندق لعدم الالتحام مع العدو كما كان متبعاً في بلاد فارس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة، وبدأ المسلمون بحفر الخندق وهو على رأسهم، واستكمل حفر الخندق، وما إن وصل المشركون إلى المدينة حتى فوجئوا به، لأن هذه الطريقة في الحرب لم تكن مألوفة من قبل لدى العرب.



بدأ المشركون يفكرون باقتحامه، خاصة وأن القتال اقتصر على النبل والحجارة التي كان يرميها كل فريق على الآخر، ولكن كان هناك منطقة ضيقة في الخندق سمحت لعمرو بن عبد ود ومعه عدة أشخاص من اجتياز الخندق، ولكن بعضهم سقط في الخندق فرماه المسلمون وقتلوه.



وعمرو هذا كان أحد أبطال العرب، وربما جرح في بدر، ونذر أنه سينتقم ويقتل محمداً صلى الله عليه وسلم وقد لبث طوال هذه المدة يداوي جراحاته، أو أن هناك ظروفاً قد حالت دون اشتراكه في الحروب التي سبقت الخندق.



ولعلّ ـ عمراً كما كل المشركين ـ كان يتصور أن المسلمين لا يستطيعون مقاومة هذه الحملة، وبذلك يتحقق ما قطعه على نفسه من قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ما إن اجتاز الخندق حتى وقف قائلاً للمسلمين بسخرية، إذا كنتم تقولون إن مَنْ يُقْتل منكم يذهب إلى الجنة، فمن يحب أن يذهب إلى الجنة، فأنا مستعد أن أقتله، وهو يصول ويجول ويرتجز ويقول: لقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز


معركة الإيمان والشرك :




والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لعمرٍ وقد ضمنت له على الله الجنة"، فلا يقوم أحدٌ إلا علي، فقال له: اجلس، ثم قال: أنا له يا رسول الله، وهكذا كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقوم أحدٌ إلا علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالجلوس، حتى قال له في المرة الثالثة: "أنت له" ....وانطلق علي، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: لقد كان أبوك صديقاً لي وأنا لا أحب أن أقتلك، فليبرز لي غيرك، قال له: ولكني أحب أن أقتلك، لأن الموقع ليس موقع علاقات شخصية، بل موقع رسالة، واشتدت العصبية بعمرو.

ويقال إن الإمام علي قال له: "إن كنت تقول ما دعاني أحد من العرب ممن أريد أن أبارزه إلى ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة، قال له: نعم، فقال علي: أولاً: أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لأننا لا نريد أن نقاتل أحداً إلا بعد أن ندعوه إلى الإسلام ونقيم عليه الحجة، قال له: دع هذه، لو أردنا أن نقولها لقلناها بمكة، قال : إذاً أن ترجع بهذا الجيش من حيث أتيت، قال: ماذا تقول عني نساء قريش، بأني جئت ولم أفِ بنذري، هذا ليس وارداً، ثم قال: أن تنزل للبراز، أنت فارس وأنا راجل، وذلك حتى نكون في وضع متكافئ.
وكانت النتيجة أن صرع علي عمراً وقتله وفرّ من كان معه من الرجال ووقع بعضهم في الخندق، ثم جاءت الريح العاتية الشاتية القوية العاصفة، وخرّبت كل تشكيلات قريش والأحزاب، "وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال". ..

اكتسب المسلمون قوة بذلك، ما مكّن النبي صلى الله عليه وسلم أن يندفع فيما بعد إلى بني قريظة فيجليهم عن المدينة، وبذلك لم يبقَ فيها أحد من اليهود، أما الذين كانوا في خيبر فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهزمهم بعد ذلك.



نقض العهود :

أما إيحاءات هذه القضية، فالإيحاء الأول هو أن اليهود لا عهد لهم، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك "أوَكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم" [البقرة:100] "ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" [البقرة:27]، وإذ خاطبهم الله "وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم" [البقرة:40] ولكن اليهود لا يعاهدون إلا إذا كانوا في موقع الضعف، وعندما يجدون من أنفسهم القوة ينقضون عهدهم، وهذا ما حصل عندما رأوا المشركين جاهزين للهجوم على المدينة لإسقاطها، وأبدوا استعدادهم للتنسيق مع أيٍّ كان، لأنهم يعتبرون الإسلام في كل مواقعه يختزن حيوية في فكره وفي سياسته وفي اقتصاده، الأمر الذي يمنعهم من تحقيق أهدافهم والوصول إلى أطماعهم وتأكيد شخصيتهم، سيما وأنهم يرون أنفسهم شعب الله المختار المؤهّل للسيطرة على العالم.

وهذا ما يجب أن نعيشه ونتحسَّب له أمام كلِّ دعوات "السلام" مع "إسرائيل" ومع يهود العالم، لأنه إذا لم نقل إن كل يهود العالم ينسّقون مع "إسرائيل" ويحاربون كل المسلمين اقتصادياً وسياسياً وثقافياً لمصلحة "إسرائيل"، فعلى الأقلّ فإن أكثرية اليهود كذلك.

... ولو سلمنا جدلاً بأن الصلح يشكل مسألة واقعية على المستوى السياسي، كما يقول بعض الناس الذين يتحدثون عن الواقعية، فإن هذا بخلاف ما ينطق به تاريخنا الإسلامي، وقرآننا الكريم الذي يقول : إنه ليس لليهود عهد، لأنهم " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" . وإذا كانوا يتحدثون الآن عن "السلام" ويزايدون في بعض الحالات، فهم يتحدّثون عن القوى الإسلامية التي تقف ضدّ "إسرائيل"، لأنها لا تعترف بشرعية وجودها ولا تهادنها بشيء، سواء كان الإسلاميون في فلسطين من أبطال الانتفاضة أو الإسلاميون في لبنان من أبطال المقاومة، أو الإسلاميون في سائر أنحاء العالم، لأن مشكلة هؤلاء ـ حسب زعمها ـ أنهم ضد "السلام"، وهي حمامة "السلام"، قاصدة من وراء كل ذلك إثارة الغرب والرأي العام الدولي، بأن هؤلاء هم دعاة حرب لا دعاة "سلام".

لذلك لا بد لنا كمسلمين أن نحمل في عقولنا وفي قلوبنا هذه الفكرة القرآنية عن اليهود، وقد بيّن الله تعالى ذلك: " لتجدنّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" [المائدة:82].

بناءً لما تقدم، علينا أن نعي حقيقة التحالف الذي وقع بين المشركين واليهود في وقعة الأحزاب، لأن هذه حقيقة قرآنية وسياسية على مستوى الزمن كلِّه، ولذا يجب أن نستوحي مفاهيمنا السياسية في علاقاتنا بكل المحاور الموجودة في العالم من الحقائق القرآنية، والقرآن عندما يحدثنا عن اليهود يحدثنا عن تجربة من زمن موسى عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ناهيك عن التجارب الأخرى التي يتحدث عنها التاريخ، ما يجعلنا نرتكز على قاعدة مفادها أن حالة العنصرية والعدوانية متجذِّرة في الشخصية اليهودية.

إزاء هذا الواقع علينا أن نثقف أولادنا على أساس أن اليهود يشكلون خطراً حقيقياً على الإسلام وعلى المسلمين في كل قضاياهم، لأنه إذا قدّر للعبة الدولية أن تحقق أهدافها من خلال عملية الصلح بين العرب وإسرائيل، فإن أمريكا سوف تُدخل إسرائيل في كل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمالي والأمني من خلال المفاوضات المتعددة الجنسيات، أو من خلال المفاوضات الثنائية، وذلك عن طريق فرض الأنظمة، وعندما يدخلون إلى بلادنا تحت عنوان "السلم"، فإنهم سيحققون بذلك ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب.

هذه المسألة هي برسم كلّ المسلمين في العالم، فمثلاً إذا كنت ملتزماً إسلامياً، هل تشتري الخمر لتشربه؟ هل تأكل لحم الخنزير؟ هل تأكل لحم الميتة؟ إنك تقول : لا يمكن ذلك، إن التعامل مع إسرائيل وإيجاد حالة تطبيعية معها هو تماماً كأكل لحم الخنـزير، وكشرب الخمر، لذلك نقول حتى للناس الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها "إسرائيل"، أو الناس الذين تدفعهم إلى أن يهرّبوا البضائع "الإسرائيلية"، إن ذلك حرام وإن المال الذي تأكلونه من ذلك سحت.

وبما أن المسألة لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، فإننا نكون بذلك قد عملنا على تقوية "إسرائيل" من الناحية الاقتصادية، وهذا يعني أننا نمدها بالقوة اللازمة لتهزم قوتنا، وبالقوة العسكرية لتقتل أهلنا وأطفالنا ونساءنا وشيوخنا، وهذا ما يقوم به الذين يتجندون "لإسرائيل" عسكرياً.

والنقطة الثانية التي نستطيع أن نستفيدها من موقعة الخندق، هي أن المشركين كانوا في موقع الكثرة المحاصرة للمسلمين، بينما كان المسلمون أقلّ عدداً وعدة ومحاصرين، ومع ذلك فإن الله هزم الكثرة وأعز القلة، وشرّد المحاصِرين وأعزّ المحاصَرين، وهذه هي الحالة التي نقرأ خلاصتها دائماً في التعقيب: "لا إله إلا الله وحده وحده وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".

ومن خلال هذه الصورة، علينا أن نفهم أنّه ليس من الضروري أن تولد لنا الهزيمة يأساً، لأننا إذا أخذنا بأسباب القوة فيما نريد أن نحقق لأنفسنا القوة، فقد نستطيع أن نهزمهم بطريقة وبأخرى، فإذا استطعنا أن نهزمهم في المواقع الصغيرة، فإن ذلك يعني أننا طوّرنا قوتنا، ونستطيع أن نهزمهم في المواقع الكبيرة.

ولذلك علينا دائماً أن نفكر كأمة ولا نفكر كأفراد، لأننا إذا فكرنا كأفراد نشعر بالضعف، أما إذا فكرنا كأمة فإننا لا ريب سنشعر بالقوة، وعلينا أن لا نفكر فقط بالجانب المادي من حياتنا، بل أن نفكر بالجانب الروحي أيضاً الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى.

وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نفكر ونمتلك الوعي السياسي الذي نحيط من خلاله بخلفيات الأمور وعمق القضايا والأشخاص، علينا أن لا نفكر لحظة واحدة أن الذين يسيطرون على الواقع العربي وعلى كثير من الواقع الإسلامي يمثلون الضمانة للعرب وللمسلمين في قضايا الحرية والعزة والكرامة والعدالة، لأن الكثيرين منهم موظفون لدى الاستكبار العالمي، بحيث لا يعتبرون أن إسرائيل تشكل خطراً عليهم، إنما يجدون الخطر كل الخطر في الإسلام ـ الذي يحكمون باسمه ـ إذا تحرك من أجل أن يؤكد مفاهيمه وشريعته.



الساعة الآن 10:54 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة للمسلمين بشرط الإشارة لشبكة الكعبة الإسلامية