الحلقة الحادية عشرة (( غزواته 2 ))
ثُمّ دَخَلَتْ السّنَةُ الثّالِثَةُ مِنْ الْهِجْرَةِ .
غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ
فَكَانَتْ فِيهَا غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ . وَكَانُوا مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ . فَنَقَضُوا الْعَهْدَ . فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً . فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَشَفَعَ فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ . وَأَلَحّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ . فَأَطْلَقَهُمْ لَهُ وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ . وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ .
غَزْوَةُ أُحُد
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُد ٍ فِي شَوّالٍ .
وَذَلِك أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمّا أَوْقَعَ بِقُرَيْشِ يَوْم َ بَدْرٍ ، وَتَرَأّسَ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ لِذَهَابِ أَكَابِرِهِمْ أَخَذَ يُؤَلّبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَيَجْمَعُ الْجُمُوعَ . فَجَمَعَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِ آلَافٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَالْحُلَفَاءِ وَالْأَحَابِيشِ . وَجَاءُوا بِنِسَائِهِمْ لِئَلّا يَفِرّوا . ثُمّ أَقْبَلَ بِهِمْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ . فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ .
فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِمْ . وَكَانَ رَأْيُهُ أَنْ لَا يَخْرُجُوا . فَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ السّكَكِ وَالنّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ وَوَافَقَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَي ّ - رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ - عَلَى هَذَا الرّأْيِ . فَبَادَرَ جَمَاعَةً مِنْ فُضَلَاءِ الصّحَابَةِ - مِمّنْ فَاتَهُ بَدْرٌ - وَأَشَارُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ بِالْخُرُوجِ . وَأَلَحّوا عَلَيْهِ .
فَنَهَضَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا : اسْتَكْرَهَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْخُرُوجِ . ثُمّ قَالُوا : إنْ أَحْبَبْت أَنْ تَمْكُثَ بِالْمَدِينَةِ فَافْعَلْ فَقَالَ " مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ " .
<108> فَخَرَجَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى رُؤْيَا : رَأَى " أَنّ فِي سَيْفِهِ ثُلْمَةً وَأَنّ بَقَرًا تُذْبَحُ . وَأَنّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ . فَتَأَوّلَ الثّلْمَةَ بِرَجُلِ يُصَابُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْبَقَرَ بِنَفَرِ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ وَالدّرْعُ بِالْمَدِينَةِ " فَخَرَجَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ " عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَالصّبْرِ عِنْدَ الْبَأْسِ إذَا لَقِيتُمْ الْعَدُوّ . وَانْظُرُوا مَاذَا أَمَرَكُمْ اللّهُ بِهِ فَافْعَلُوا " . فَلَمّا كَانَ بِالشّوْطِ - بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ - انْخَذَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ وَقَالَ عَصَانِي . وَسَمِعَ مِنْ غَيْرِي مَا نَدْرِي : عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَهُنَا أَيّهَا النّاسُ ؟
فَرَجَعَ وَتَبِعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو - وَالِدُ جَابِرٍ - يُحَرّضُهُمْ عَلَى الرّجُوعِ . وَيَقُولُ " قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ ادْفَعُوا ، قَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمْ نَرْجِعْ " فَرَجَعَ عَنْهُمْ وَسَبّهُمْ . وَسَأَلَ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودَ . فَأَبَى ، وَقَالَ " مَنْ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ ؟ " . فَخَرَجَ بِهِ بَعْضُ الْأَنْصَارِ ، حَتّى سَلَكَ فِي حَائِطٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ - وَكَانَ أَعْمَى - فَقَامَ يَحْثُو التّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُ لَا أُحِلّ لَك أَنْ تَدْخُلَ فِي حَائِطِي ، إنْ كُنْت رَسُولَ اللّهِ . فَابْتَدَرُوهُ لِيَقْتُلُوهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَقْتُلُوهُ فَهَذَا أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ " .
وَنَفَذَ حَتّى نَزَلَ الشّعْبَ مِنْ أُحُدٍ ، فِي عُدْوَةِ الْوَادِي الدّنْيَا . وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى أُحُدٍ وَنَهَى النّاسَ عَنْ الْقِتَالِ حَتّى يَأْمُرَهُمْ .
فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمُ السّبْتِ تَعَبّأَ لِلْقِتَالِ . وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَارِسًا . وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الرّمَاةِ - وَكَانُوا خَمْسِينَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُبَيْرٍ . وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُفَارِقُوا مَرْكَزَهُمْ وَلَوْ رَأَوْا الطّيْرَ تَخْتَطِفُ الْعَسْكَرَ . وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْمُشْرِكِينَ بِالنّبْلِ لِئَلّا يَأْتُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ . وَظَاهَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ .
وَأَعْطَى اللّوَاءَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ ، وَجَعَلَ عَلَى إحْدَى الْمُجَنّبَتَيْنِ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ <109> وَعَلَى الْأُخْرَى : الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو . وَاسْتَعْرَضَ الشّبَابَ يَوْمَئِذٍ . فَرَدّ مَنْ اسْتَصْغَرَ عَنْ الْقِتَالِ - كَابْنِ عُمَرَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَالْبَرَاءِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَعَرَابَةَ الْأَوْسِيّ - وَأَجَازَ مَنْ رَآهُ مُطِيقًا .
وَتَعَبّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ . وَفِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ . فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ . وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ .
وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيْفَهُ إلَى أَبِي دُجَانَةَ .
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَدَرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَبُو عَامِرٍ - عَبْدُ عَمْرِو بْنِ صَيْفِيّ - الْفَاسِقُ . وَكَانَ يُسَمّى الرّاهِبَ . وَهُوَ رَأْسُ الْأَوْسِ فِي الْجَاهِلِيّةِ . فَلَمّا جَاءَ الْإِسْلَامُ شَرَقَ بِهِ وَجَاهَرَ بِالْعَدَاوَةِ . فَذَهَبَ إلَى قُرَيْشٍ يُؤَلّبُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَعَدَهُمْ بِأَنّ قَوْمَهُ إذَا رَأَوْهُ أَطَاعُوهُ . فَلَمّا نَادَاهُمْ وَتَعَرّفَ إلَيْهِمْ قَالُوا : لَا أَنْعَمَ اللّهُ بِك عَيْنًا يَا فَاسِقُ . فَقَالَ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرّ . ثُمّ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا . ثُمّ أَرْضَخَهُمْ بِالْحِجَارَةِ .
وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ أَبُو دُجَانَةَ وَطَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيّ ، وَالنّضْرُ بْنُ أَنَسٍ وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ بَلَاءً حَسَنًا . وَكَانَتْ الدّوْلَةُ أَوّلَ النّهَارِ لِلْمُسْلِمِينَ . فَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللّهِ وَوَلّوْا مُدْبِرِينَ . حَتّى انْتَهَوْا إلَى نِسَائِهِمْ . فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ الرّمَاةُ قَالُوا : الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ . فَذَكّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَسْمَعُوا . فَأَخْلَوْا الثّغْرَ وَكَرّ فُرْسَانُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ خَالِيًا . فَجَاءُوا مِنْهُ وَأَقْبَلَ آخِرُهُمْ حَتّى أَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ فَأَكْرَمَ اللّهُ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ بِالشّهَادَةِ - وَهُمْ سَبْعُونَ - وَوَلّى الصّحَابَةُ .
وَخَلَصَ الْمُشْرِكُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَرَحُوهُ جِرَاحَاتٍ وَكَسَرُوا رُبَاعِيّتَهُ . وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ . فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَأَدْرَكَهُ الْمُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ . فَحَالَ دُونَهُ نَحْوَ عَشَرَةٍ حَتّى قُتِلُوا . ثُمّ جَلَدَهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ حَتّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ . وَتَرّسَ أَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ بِظَهْرِهِ وَالنّبْلُ يَقَعُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَتَحَرّكُ .
وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ . فَأُتِيَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَدّهَا بِيَدِهِ . فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ .
<110> وَصَرَخَ الشّيْطَانُ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَمَرّ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ بِقَوْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالُوا : قُتِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ . ثُمّ اسْتَقْبَلَ النّاسَ وَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، فَقَالَ يَا سَعْدُ إنّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنّةِ مِنْ دُونِ أُحُدٍ . فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ . وَوَجَدَ بِهِ سَبْعُونَ جِرَاحَةً .
وَقَتَلَ وَحْشِيّ الْحَبَشِيّ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . رَمَاهُ بِحَرْبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ .
وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ . فَكَانَ أَوّلَ مَنْ عَرَفَهُ تَحْتَ الْمِغْفَرِ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ . فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ . فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَنَهَضُوا مَعَهُ إلَى الشّعْبِ الّذِي نَزَلَ فِيهِ .
فَلَمّا أَسْنَدُوا إلَى الْجَبَلِ أَدْرَكَهُ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ كَانَ يَزْعُمُ بِمَكّةَ أَنّهُ يَقْتُلُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا اقْتَرَبَ مِنْهُ طَعَنَهُ رَسُولُ اللّهِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فِي تَرْقُوَتِهِ فَكَرّ مُنْهَزِمًا . فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ مَا بِك مِنْ بَأْسٍ . فَقَالَ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَحَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ . فَمَاتَ بِسَرِفَ . وَحَانَتْ الصّلَاةُ فَصَلّى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسًا .
وَشَدّ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ . فَلَمّا تَمَكّنَ مِنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ شَدّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ حَنْظَلَةُ جَنْبًا . فَإِنّهُ سَمِعَ الصّيْحَةَ وَهُوَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ - قَامَ مِنْ فَوْرِهِ إلَى الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُهُ
وَكَانَ الْأُصَيْرِمُ - عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ - يَأْبَى الْإِسْلَامَ . وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ . فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ : قَذَفَ اللّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الّتِي سَبَقَتْ لَهُ . فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ . فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ . فَلَمّا طَافَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ وَجَدُوا الْأُصَيْرِمَ - وَبَهْ رَمَقٌ يَسِيرُ - فَقَالُوا : وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْأُصَيْرِمَ . ثُمّ سَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِك ؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِك ، أَمْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْت . <111> وَمَاتَ مِنْ وَقْتِهِ . فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ " وَلَمْ يُصَلّ لِلّهِ سَجْدَةً قَطّ ([19])
وَلَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْجَبَلِ وَنَادَى : أَفِيكُمْ مُحَمّدٌ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ . فَقَالَ أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ . فَقَالَ أَفِيكُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ .
فَقَالَ أَمّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُمْ . فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ يَا عَدُوّ اللّهِ إنّ الّذِينَ ذَكَرْتهمْ أَحْيَاءٌ وَقَدْ أَبْقَى اللّهُ لَك مَعَهُمْ مَا يَسُوءُك . ثُمّ قَالَ اُعْلُ هُبَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ " قَالُوا : مَا نَقُولُ ؟ قَالَ " قُولُوا : اللّهُ أَعْلَى وَأَجَلّ " ثُمّ قَالَ لَنَا الْعُزّى ، وَلَا عُزّى لَكُمْ قَالَ " أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ " قَالُوا : مَا نَقُولُ ؟ قَالَ " قُولُوا : اللّهُ مَوْلَانَا . وَلَا مَوْلَى لَكُمْ " ([20]) ثُمّ قَالَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ . وَالْحَرْبُ سِجَالٌ فَقَالَ عُمَرُ لَا سَوَاءٌ قَتْلَانَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّارِ .
وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ النّعَاسَ فِي بَدْرٍ وَفِي أُحُدٍ . وَالنّعَاسُ فِي الْحَرْبِ مِنْ اللّهِ . وَفِي الصّلَاةِ وَمَجَالِسِ الذّكْرِ مِنْ الشّيْطَانِ .
وَقَاتَلَتْ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ . كَأَشَدّ الْقِتَالِ وَمَا رَأَيْتهمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ ([21])
وَمَرّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلِ مِنْ الْأَنْصَارِ - وَهُوَ يَتَشَحّطُ فِي دَمِهِ - فَقَالَ يَا فُلَانُ أَشَعَرْت أَنّ مُحَمّدًا قُتِلَ ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ : إنْ كَانَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ ( 3 : 144 ) وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ الْآيَةَ .
وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ اخْتَبَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَظْهَرَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ .
وَأَكْرَمَ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشّهَادَةِ . فَكَانَ مِمّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ : إحْدَى وَسِتّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ ، أَوّلُهَا ( 3 : 121 - 180 ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ الْآيَاتِ .
وَلَمّا انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ . وَقَالُوا : لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا ، أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ ثُمّ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ . فَارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ .
<112> فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَنَادَى فِي النّاسِ بِالْمَسِيرِ إلَيْهِمْ وَقَالَ " لَا يَخْرُجُ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ " فَقَالَ لَهُ ابْنُ أُبَيّ : أَرْكَبُ مَعَك ؟ قَالَ لَا . فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ - عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْقَرْحِ الشّدِيدِ - وَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً . وَقَالَ جَابِرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَنْ لَا تَشْهَدَ مَشْهَدًا إلّا كُنْت مَعَك . وَإِنّمَا خَلّفَنِي أَبِي عَلَى بَنَاتِهِ فَأْذَنْ لِي أَسِيرُ مَعَك . فَأَذِنَ لَهُ .
فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ حَتّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ فَرَجَعُوا إلَى مَكّةَ . وَشَرَطَ أَبُو سُفْيَانَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ شَرْطًا عَلَى أَنّهُ إذَا مَرّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنْ يُخَوّفَهُمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ أَنّ قُرَيْشًا أَجْمَعُوا لِلْكَرّةِ عَلَيْكُمْ لِيَسْتَأْصِلُوا بَقِيّتَكُمْ . فَلَمّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا ( 3 : 173 ) حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . ثُمّ دَخَلَتْ السّنَةُ الرّابِعَةُ . فَكَانَتْ فِيهَا وَقْعَةُ خَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ فِي صَفَرٍ .
وَقْعَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ
وَفِي هَذَا الشّهْرِ بِعَيْنِهِ مِنْ السّنَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ . وَنَزَلَ فِيهَا سُورَةُ الْحَشْرِ . ثُمّ دَخَلَتْ السّنَةُ الْخَامِسَةُ .
غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ
فَكَانَتْ فِيهَا غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ غَارّونَ . فَسَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ وَالنّعَمَ وَالشّاهَ . وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ السّبْيِ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، سَيّدُ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ . فَكَاتَبَهَا ، فَأَدّى عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَزَوّجَهَا ، فَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ - بِسَبَبِ هَذَا التّزَوّجِ - مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ . وَقَالُوا : أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قِصّةُ الْإِفْكِ
<113> وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَتْ قِصّةُ الْإِفْكِ . وَذَلِك أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ بِقُرْعَةِ - وَتِلْكَ كَانَتْ عَادَتُهُ مَعَ نِسَائِهِ - فَلَمّا رَجَعُوا : نَزَلَ فِي طَرِيقِهِمْ بَعْضُ الْمَنَازِلِ . فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ لِحَاجَتِهَا ، ثُمّ رَجَعَتْ . فَفَقَدَتْ عِقْدًا عَلَيْهَا . فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ . فَجَاءَ الّذِينَ يُرَحّلُونَ هَوْدَجَهَا . فَحَمَلُوهُ . وَهُمْ يَظُنّونَهَا فِيهِ . لِأَنّهَا صَغِيرَةُ السّنّ . فَرَجَعَتْ - وَقَدْ أَصَابَتْ الْعِقْدَ - إلَى مَكَانِهِمْ . فَإِذَا لَيْسَ بِهِ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ . فَقَعَدَتْ فِي الْمَنْزِلِ وَظَنّتْ أَنّهُمْ يَفْقِدُونَهَا ، وَيَرْجِعُونَ إلَيْهَا . فَغَلَبَتْهَا عَيْنَاهَا . فَلَمْ تَسْتَيْقِظْ إلّا بِقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ : إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ عَرّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْجَيْشِ لِأَنّهُ كَانَ كَثِيرَ النّوْمِ . فَلَمّا رَآهَا عَرَفَهَا - وَكَانَ يَرَاهَا قَبْلَ الْحِجَابِ - فَاسْتَرْجَعَ . وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَتْ وَمَا كَلّمَهَا كَلِمَةً وَاحِدَةً . وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ إلّا اسْتِرْجَاعَهُ . ثُمّ سَارَ يَقُودُ بِهَا ، حَتّى قَدِمَ بِهَا . وَقَدْ نَزَلَ الْجَيْشُ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ . فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ النّاسُ تَكَلّمَ كُلّ مِنْهُمْ بِشَاكِلَتِهِ . وَوَجَدَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ عَدُوّ اللّهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ مُتَنَفّسًا . فَتَنَفّسَ مِنْ كَرْبِ النّفَاقِ وَالْحَسَدِ . فَجَعَلَ يَسْتَحْكِي الْإِفْكَ وَيَجْمَعُهُ وَيُفَرّقُهُ . وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَقَرّبُونَ إلَيْهِ به .
فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ : أَفَاضَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الْحَدِيثِ . وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلّمُ . ثُمّ اسْتَشَارَ فِي فِرَاقِهَا . فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَلِيّ بِفِرَاقِهَا ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أُسَامَةُ بِإِمْسَاكِهَا .
وَاقْتَضَى تَمَامُ الِابْتِلَاءِ أَنْ حَبَسَ اللّهُ عَنْ رَسُولِهِ الْوَحْيَ شَهْرًا فِي شَأْنِهَا ، لِيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ إيمَانًا ، وَثَبَاتًا عَلَى الْعَدْلِ وَالصّدْقِ . وَيَزْدَادَ الْمُنَافِقُونَ إفْكًا وَنِفَاقًا وَلِتَتِمّ الْعُبُودِيّةُ الْمُرَادَةُ مِنْ الصّدّيقَةِ وَأَبَوَيْهَا ، وَتَتِمّ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَلِيَنْقَطِعَ رَجَاؤُهَا مِنْ الْمَخْلُوقِ وَتَيْأَسَ مِنْ حُصُولِ النّصْرِ وَالْفَرَجِ إلّا مِنْ اللّهِ .
فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعِنْدَهَا أَبَوَاهَا . فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ " يَا عَائِشَةُ إنْ كُنْت بَرِيئَةً فَسَيُبَرّئُك اللّهُ وَإِنْ كُنْت قَدْ أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي . فَإِنّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ . ثُمّ تَابَ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ " .
<114> قَالَتْ لِأَبِيهَا : أَجِبْ عَنّي رَسُولَ اللّهِ . قَالَ وَاَللّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللّهِ .
فَقَالَتْ لِأُمّهَا مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَتْ أُمّهَا مِثْلَ ذَلِكَ .
قَالَتْ فَقُلْت : إنْ قُلْت إنّي بَرِيئَةٌ - وَاَللّهُ يَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ - لَا تُصَدّقُونِي . وَلَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا . إلّا أَبَا يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ ( 12 : 18 ) فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
قَالَتْ فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَأَمّا أَنَا : فَعَلِمْت أَنّ اللّهَ لَا يَقُولُ إلّا الْحَقّ . وَأَمّا أَبَوَايَ فَوَاَلّذِي ذَهَبَ بِأَنْفَاسِهِمَا ، مَا أَقْلَعُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا خِفْت أَنّ أَرْوَاحَهُمَا سَتَخْرُجَانِ . فَكَانَ أَوّلَ كَلِمَةٍ قَالَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا اللّهُ يَا عَائِشَةُ فَقَدْ بَرّأَك .
فَقَالَ أَبَوَيّ قُومِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قُلْت وَاَللّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلّا اللّهَ " ([22]) . وَكَانَ حَسّانُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِمّنْ قِيلَ عَنْهُ إنّهُ يَتَكَلّمُ مَعَ أَهْلِ الْإِفْكِ فَقَالَ يَعْتَذِرُ إلَى عَائِشَةَ . وَيَمْدَحُهَا :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَرَنّ بَرِيئَةً
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ
كِرَامِ الْمَسَاعِي . مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذّبَةٌ قَدْ طَيّبَ اللّهُ خَيْمَهَا
طَهّرَهَا مِنْ كُلّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
لَئِنْ كَانَ مَا قَدْ قِيلَ عَنّي قُلْته
فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ ؟ وَوُدّي مَا حَيِيت ، وَنُصْرَتِي
لِآلِ رَسُولِ اللّهِ زَيْنُ الْمَحَافِلِ
وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تَرْضَى أَنْ يَذْكُرَ حَسّانُ بِشَيْءِ يَكْرَهُهُ وَتَقُولُ إنّهُ الّذِي يَقُولُ
فَإِنّ أَبِي ، وَوَالِدَتِي ، وَعِرْضِي
لِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وَقَاءَ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَوّلَ سُورَةِ النّورِ مِنْ قَوْلِهِ ( 24 : 1 - 26 ) الّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ
<115> وَفِي هَذِهِ السّنَةِ - وَهِيَ سَنَةُ خَمْسٍ - كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوّالٍ . وَسَبَبُهَا : أَنّ الْيَهُودَ لَمّا رَأَوْا انْتِصَارَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، خَرَجَ أَشْرَافُهُمْ - كَسَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ - وَغَيْرِهِ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ يُحَرّضُونَهُمْ عَلَى غَزْوِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَعَدَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ النّصْرَ لَهُمْ . فَأَجَابَتْهُمْ قُرَيْشٌ . ثُمّ خَرَجُوا إلَى غَطَفَانَ : فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ ثُمّ طَافُوا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مَنْ اسْتَجَابَ .
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ - وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ - فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ . وَوَافَقَهُمْ بَنُو سُلَيْمٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ ، وَبَنُو أَسَدٍ ، وَفَزَارَةُ وَأَشْجَعُ وَغَيْرُهُمْ . وَكَانَ مَنْ وَافَى الْخَنْدَقَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَشَرَةَ آلَافٍ .
فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَسِيرِهِمْ إلَيْهِ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ . فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ . فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَبَادَرَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ . وَكَانَ فِي حَفْرِهِ مِنْ آيَاتِ نُبُوّتِهِ مَا قَدْ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ .
وَخَرَجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ . فَلَمّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ الشّدّةِ وَالْجُوعِ . قَالَ
اللّهُمّ لَا عَيْشَ إلّا عَيْشُ الْآخِرَةِ
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ
نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَتَحَصّنَ بِالْجَبَلِ مِنْ خَلْفِهِ - جَبَلُ سَلْعٍ - وَبِالْخَنْدَقِ أَمَامَهُ . وَأَمَرَ بِالنّسَاءِ وَالذّرَارِيّ فَجُعِلُوا فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ .
وَانْطَلَقَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَدَنَا مِنْ حِصْنِهِمْ فَأَبَى كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ . فَلَمْ يَزَلْ يُكَلّمُهُ حَتّى فَتَحَ لَهُ . فَلَمّا دَخَلَ الْحِصْنَ قَالَ جِئْتُك بِعِزّ الدّهْرِ . جِئْتُك بِقُرَيْشِ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ ، عَلَى قَادَتِهَا لِحَرْبِ مُحَمّدٍ قَالَ بَلْ جِئْتنِي <116> وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ جِئْتنِي بِجِهَامِ قَدْ أَرَاقَ مَاءَهُ . فَهُوَ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ فِيَة شَيْءٌ .
فَلَمْ يَزَلْ حَتّى نَقَضَ الْعَهْدَ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ . وَسُرّ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ وَشَرَطَ كَعْبٌ عَلَى حُيَيّ أَنّهُمْ إنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِمُحَمّدِ أَنْ يَجِيءَ حَتّى يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي حِصْنِهِمْ فَيُصِيبُهُ مَا يُصِيبُهُمْ فَشَرَطَ ذَلِكَ وَوَفَى لَهُ .
وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ الْخَبَرُ . فَبَعَثَ إلَيْهِمْ السّعْدَيْنِ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - وَخَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِيَتَعَرّفُوا الْخَبَرَ . فَلَمّا دَنَوْا مَعَهُمْ وَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا يَكُونُ . وَجَاهَرُوهُمْ بِالسّبّ . وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَانْصَرَفُوا وَلَحّنُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَحْنًا .
فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُ أَكْبَرُ أَبْشِرُوا ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ " .
وَاشْتَدّ الْبَلَاءُ وَنَجَمَ النّفَاقُ . وَاسْتَأْذَنَ بَعْضُ بَنِي حَارِثَةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّهَابِ إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَالُوا ( 33 : 13) إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا
وَأَقَامَ الْمُشْرِكُونَ مُحَاصِرِينَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرًا . وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لِأَجْلِ الْخَنْدَقِ ، إلّا أَنّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ - مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ - أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ . فَلَمّا وَقَفُوا عَلَيْهِ قَالُوا : إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا . ثُمّ تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنْهُ وَجَالَتْ بِهِمْ خَيْلُهُمْ فِي السّبْخَةِ وَدُعُوا إلَى الْبَرَازِ . فَانْتَدَبَ لِعَمْرِو : عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَبَارَزَهُ . فَقَتَلَهُ اللّهُ عَلَى يَدَيْ عَلِيّ . وَكَانَ مِنْ أَبْطَالِ الْمُشْرِكِينَ .
وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ . وَلَمّا طَالَتْ هَذِهِ الْحَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُصَالِحَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ - رَئِيسَيْ غَطَفَانَ - عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَيَنْصَرِفَا بِقَوْمِهِمَا . وَجَرَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى ذَلِكَ . وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّعْدَيْنِ . فَقَالَا : إنْ كَانَ اللّهُ أَمَرَك : فَسَمْعًا وَطَاعَةً . وَإِنْ كَانَ شَيْئًا تُحِبّ أَنْ تَصْنَعَهُ صَنَعْنَاهُ . وَإِنْ <117> كَانَ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا ، فَلَا . لَقَدْ كُنّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً إلّا قُرًى أَوْ بِيَعًا . أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَعَزّنَا بِك ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا ؟ وَاَللّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ . فَصَوّبَ رَأْيَهُمَا .
وَقَالَ " إنّمَا هُوَ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ ، لَمّا رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ " .
ثُمّ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ - وَلَهُ الْحَمْدُ - صَنَعَ أَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ خَذَلَ بِهِ الْعَدُوّ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنّ رَجُلًا مِنْ غَطَفَانَ - يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ - جَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ قَدْ أَسْلَمْت ، فَمُرْ بِي بِمَا شِئْت . فَقَالَ " إنّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ . فَخَذّلْ عَنّا مَا اسْتَطَعْت . فَإِنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ " . فَذَهَبَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ - وَكَانَ عَشِيرًا لَهُمْ - فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِهِ . فَقَالَ إنّكُمْ قَدْ حَارَبْتُمْ مُحَمّدًا . وَإِنّ قُرَيْشًا إنْ أَصَابُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا ، وَإِلّا انْشَمِرُوا قَالُوا : فَمَا الْعَمَلُ ؟ قَالَ لَا تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ حَتّى يُعْطُوكُمْ رَهَائِنَ . فَقَالُوا : قَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ . ثُمّ مَضَى إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُونَ وُدّي لَكُمْ وَنُصْحِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ إنّ الْيَهُودَ قَدْ نَدمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَإِنّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا إلَى مُحَمّدٍ أَنّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْكُمْ رَهَائِنَ يَدْفَعُونَهَا إلَيْهِ ثُمّ يُمَالِئُونَهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ سَأَلُوكُمْ فَلَا تُعْطُوهُمْ . ثُمّ ذَهَبَ إلَى غَطَفَانَ . فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ .
فَلَمّا كَانَتْ لَيْلَةُ السّبْتِ مِنْ شَوّالٍ بَعَثُوا إلَى يَهُودَ إنّا لَسْنَا مَعَكُمْ بِأَرْضِ مُقَامٍ وَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ . فَاغْدُوَا بِنَا إلَى مُحَمّدٍ حَتّى نُنَاجِزَهُ فَأَرْسَلُوا إلَيْهِمْ إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا أَصَابَ مِنْ قَبْلِنَا حِينَ أَحْدَثُوا فِيهِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتّى تَبْعَثُوا لَنَا رَهَائِنَ .
فَلَمّا جَاءَهُمْ رُسُلُهُمْ قَالُوا : قَدْ صَدَقَكُمْ وَاَللّهِ نُعَيْمٌ . فَبَعَثُوا إلَيْهِمْ إنّا وَاَللّهِ لَا نَبْعَثُ إلَيْكُمْ أَحَدًا . فَقَالَتْ قُرَيْظَةُ قَدْ صَدَقَكُمْ وَاَللّهِ نُعَيْمٌ . فَتَخَاذَلَ الْفَرِيقَانِ .
وَأَرْسَلَ اللّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ جُنْدًا مِنْ الرّيحِ فَجَعَلَتْ تُقَوّضُ خِيَامَهُمْ وَلَا تَدَعُ لَهُمْ قَدْرًا إلّا كَفَأَتْهَا ، وَلَا طُنُبًا إلّا قَلَعَتْهُ وَجُنْدًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ يُزَلْزِلُونَ بِهِمْ وَيُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ كَمَا قَالَ اللّهُ ( 33 : 9 ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا . <118> وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ } يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ . فَوَجَدَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَقَدْ تَهَيّئُوا لِلرّحِيلِ . فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِرَحِيلِهِمْ .
فَلَمّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ ، رَاجِعًا وَالْمُسْلِمُونَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَوَضَعُوا السّلَاحَ . فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ وَقْتَ الظّهْرِ فَقَالَ أَقَدْ وَضَعْتُمْ السّلَاحَ ؟ إنّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا ، انْهَضْ إلَى هَؤُلَاءِ - يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ - فَنَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلَا يُصَلّيَن الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " ([23]) .
فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ سِرَاعًا ، حَتّى إذَا دَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ قَالَ يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ هَلْ أَخْزَاكُمْ اللّهُ وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ؟ ([24]) .
وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً حَتّى جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ . وَقَذَفَ اللّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ . فَقَالَ لَهُمْ رَئِيسُهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ : إنّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا ، خُذُوا أَيّهَا شِئْتُمْ نُصَدّقُ هَذَا الرّجُلَ وَنَتّبِعُهُ . فَإِنّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنّهُ النّبِيّ الّذِي تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ .
قَالُوا لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التّوْرَاةِ أَبَدًا .
قَالَ فَاقْتُلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَاخْرُجُوا إلَيْهِ مُصْلِتِي سُيُوفَكُمْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ .
قَالُوا : فَمَا ضَرّ الْعَيْشِ بَعْدَ أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ؟
قَالَ فَانْزِلُوا اللّيْلَةَ . فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمّنُوكُمْ فِيهَا لِأَنّهَا لَيْلَةُ السّبْتِ - لَعَلّنَا نُصِيبُ مِنْهُمْ غُرّةً . قَالُوا : لَا نُفْسِدُ سَبْتَنَا . وَقَدْ عَلِمْت مَا أَصَابَ مَنْ اعْتَدَوْا فِي السّبْتِ . قَالَ مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ - مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمّهُ لَيْلَةً مِنْ الدّهْرِ حَازِمًا . ثُمّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَحَكّمَ فِيهِمْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَحَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُقْسَمُ الْأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ . وَأَنْزَلَ اللّهُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ صَدْرَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ . وَذَكَرَ قِصّتَهُمْ فِي قَوْلِهِ ( 33 : 9 - 27 ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ - إلَى قَوْلِهِ - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ثُمّ دَخَلَتْ السّنَةُ السّادِسَةُ .