عرض مشاركة واحدة
قديم 01-01-2011, 08:54 AM   #2
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي

حكم الاستمرار فيه:
سبق في الفرع السابق بيان تحريم الدخول في العقد الفاسد الذي علم فساده، وهذا التحريم يستمر حتى ولو عصى المسلم ربه ودخل فيه، ودخوله فيه لا يصيِّره عقداً مباحاً ولا صحيحاً.
فلا يحل له الاستمرار والمضي فيه سواء طرأ عليه الفساد أم كان فاسداً من الأصل؛ لأن المضي والاستمرار في الفاسد مضادة لله عز وجل؛ فالحق سبحانه إنما حرم هذا الشيء وأفسده لئلا يرتكبه الناس، والمضي فيه ارتكاب له، واستثنى بعض العلماء من ذلك الحج والعمرة.
ويحرم المضي فيما فسدا*** إلا بحج واعتمار أبداً (12)
وهذه قاعدة من القواعد الفقهية التي جرى التطبيق عليها في كثير من أبواب الفقه عدا الحج والعمرة عند بعض العلماء.
قال الشافعي: ( وليس شيء يمضى في فاسده إلا الحج ) (13).
ففي البيع، لو تبايع رجلان شيئاً مجهولاً كبيع الحمل في البطن وبيع المجهول فاسد؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عنه (14)، ثم تبين لهما بعد العقد أن البيع فاسد فلا يجوز لهما أن يمضيا في البيع، بل يجب أن يقطعاه، وأن يعود لكل منهما ماله الذي كان له قبل العقد؛ لأن هذا البيع فاسد، واستمراره مضادة لله.
وكذلك لو أن إنساناً عقد عقداً ربوياً بأن باع درهماً بدرهمين، أو صاعاً من البر بصاعين من البر، فإن هذا عقد فاسد يجب رده، ويحرم أن يمضي فيه، فترد السلعة إلى البائع ويرد الثمن إلى المشتري (15).
والدليل من السنة على تحريم الاستمرار في العقد الفاسد: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال: جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : ((من أين هذا؟)) فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي –صلى الله عليه وسلم- ، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: ((أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به )) (16) وفي رواية لمسلم: ((فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا)) (17) فأمر برده؛ لأن هذا ربا والربا يجب رده، وهذا نتيجة القول بالفساد والتحريم؛ لأننا لو قلنا يفسد وبقيت السلعة في يد المشتري والثمن في يد البائع لم يكن لقولنا إنه فاسد معنى ولا ثمرة بل لا بد من إعادته (18).
قال النووي عند هذا الحديث: ( وقوله –صلى الله عليه وسلم- : [هذا الربا فردوه] هذا دليل على أن المقبوض ببيع فاسد يجب رده على بائعه وإذا رده استرد الثمن ) (19).
وقال ابن حجر: ( وفيه أن البيوع الفاسدة ترد) (20).
قال مالك وكل بيع حرام لا يقر على حال إن أدرك رد وإلا فقيمتها على المشتري)(21).
قال الشافعي: ( والبيع الفاسد لو مرت عليه الآباد أو اختار المشتري أو البائع إنفاذه لم يجز) (22).
قال ابن عبد البر: ( ومعروف في الأصول أن ما ورد التحريم به لم يجز العقد عليه ولا بد من فسخه) (23).
(فالقابض مخاطب شرعاً برد المقبوض بهذا العقد الفاسد إلى مالكه في كل لحظة) (24) وتصرفه يؤدي إلى البقاء على المعصية وهذا لا يجوز .
وهكذا كل ما ملك بعقد فاسد حرم المضي فيه، ووجب مبادرة الرد إلى صاحبه بكل حال (25) ولو بدون طلب صاحبه، ويجب فسخ العقد الفاسد وتصحيحه حتى على رأي الحنفية الذين يرون ثبوت الملكية فيه بالقبض حيث قالوا: ( إذا أصر البائع والمشتري على إمساك المشترى فاسداً، وعلم به القاضي فله فسخه حقاً للشرع، وقالوا: إنه يفيد الملك الخبيث، ولا يطيب للمشتري الأول، ويأثم به، ويجب فسخه، وقالوا: إن التصرف – أي في المقبوض بعقد فاسد – الذي فيه انتفاع معين كأكل الطعام ولبس الثوب وركوب الدابة فالصحيح عندهم أنه لا يحل؛ لأن الثابت بهذا البيع ملك خبيث والملك الخبيث لا يفيد إطلاق الانتفاع؛ لأنه واجب الرفع، وفي الانتفاع به تقرر له، وفيه تقرير الفساد، ولهذا لم يفد الملك قبل القبض تحرزاً عن تقرير الفساد بالتسليم) (26) حتى لو تقادم عليه الزمان لا يثبت الملك، لأن الفاسد لا يصير صحيحاً بتقادم الزمان ولو حكم الحاكم بنفاذه (27) ؛ لذا لم يختلفوا على وجوب رد المقبوض بعقد فاسد بعينه إن كان قائماً ولم يخرج عن يد قابضه (28).
قال ابن رشد: ( اتفق الفقهاء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء أو نقصان أو حوالة سوق (29) أن حكمها الرد أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون )(30).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين، فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه) (31).
ومن خلال ما سبق يمكن أن نلخص النتائج بما يلي:
أولاً: أن فساد العقد إنما مرده إلى ورود النهي عليه، وكل عقد نهى الشرع عن إجرائه فهو فاسد أو باطل.
ثانياً: تحريم الدخول في العقد الفاسد لم يختلف العلماء فيه في الجملة، حتى عند الحنفية الذين أثبتوا ملكية الفاسد بالقبض.
ثالثاً: أن الفساد في العقد يعني لحوق الإثم على فاعله، وخبث المقبوض،ووجوب رده، ولا تثبت فيه الملكية عند الجمهور، ويثبت عند الحنفية بالقبض مع أنهم يقولون بوجوب رده وخبثه.
رابعاً: أن الاستمرار في العقد الفاسد والمضي فيه مضادة لشرع الله تعالى، باستثناء الحج والعمرة.
هذا، وإن للمقبوض بعقد فاسد من حيث ملكيته وحكم التصرف فيه والانتفاع به أحوال، وهو موضع خلاف بين الجمهور والحنفية، أسأل الله عز وجل أن يسهل في المستقبل عرض هذه المسألة بأقوالها وأدلتها، وبيان الراجح فيها، في بحث مستقل.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للخير ويجنبنا الشر والفسوق والعصيان، ونسأله جل وعلا أن يطيب كسبنا، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

.../...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً