عرض مشاركة واحدة
قديم 03-13-2011, 04:55 PM   #1
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي من تجـديد الفقه إلى تجديد الفقيه .









مدخل مفاهيمي :
عادةً ما تسيطر على الوسط الفكري مجموعة من المفاهيم التي تظل ممسكة بزمام البحث في تلك الأوساط على اختلاف مرجعياتها، ويظل الجدل الفكري متمركزاً حولها بشكل أو بآخر، وكلما كانت تلك المفاهيم مستندة إلى مرجعية تمتلك عوامل البقاء كلما بقيت فاعليتها واستمرارها؛ كما هو الحال في مرجعية الإسلام؛ ولذلك فإن الدعوات الفكرية الحداثية التي تسعى إلى إحداث قطيعة معرفية (أو ما يسمى «القطيعة الإبستمولوجية» [1]) مع المفاهيم الإسلامية المحْكَمة، لا يمكنها أن تنجح في سعيها؛ لأن بقاء هذه المفاهيم مرتهَن ببقاء الإسلام نفسه؛ ولذلك فإن هذه الدعوة بالقطيعة مستلهَمَة من التجربة الغربيـة التي أحـدث فيها الفكر الغربي - كما يقول دعاة القطيعة - مجموعة من القطائع الإبستمولوجية في تاريخه، كالقطيعة بين اليونان والرومان والعصور الوسطى، ثم القطيعة بين العصور الوسطى وعصور الحداثة وهكذا، بداية على يد غاليلو وديكارت، ثم نيوتن وكانط ثم آينشتاين وباشلار.
وإننا لو سلمنا بأن تلك المحاولات كانت تمثل قطيعة حقيقية مع المراحل التاريخية السابقة في هذا الفكر؛ فإن محاولة نقل هذه التجربة إلى واقع الفكر الإسلامي هي محاولة استنبات في أرض غير صالحة لذلك، وسبب ذلك: أن كثيراً من تلك المفاهيم التي صنعها الفكر الغربي هي مفاهيم بشرية خاضعة للبيئة التي نشأت فيها، والظرف التاريخي الذي ولدت فيه، بينما مفاهيم الإسلام الـمُحْكَمة هي مفاهيم إلهيةُ المصدرِ، مطلقةُ الزمانِ والمكانِ؛ فلا يمكن أن يحدث في الواقع الإسلامي قطيعة مع مفاهيم التوحيد، والإيمان، والحق، والعدل... ونحوها. أما المفاهيم البشرية الزائفة فلقـد جاء الإسـلام بالدعوة إلى تخليص النـاس منها وإحـداث القطيعـة التامة بينهم وبينهـا؛ فهـو - سبحانه - ينهى عن الخرافة والشرك فيقول عن ذلك: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْـمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْـجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِـمِينَ مِنْ أَنصَار}ٍ المائدة.72
ويحذر من مفهوم الغلو فيقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْـحَقَ}: النساء171.
ويريد - سبحانه - أن يحرر العقل الإنساني من مفهوم تبعية الآباء والأجداد فيقول: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} البقرة:170
ويتحدث - سبحانه - عن مفهوم الفساد ويصحح طريقة النظر إليه فيقول: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} البقرة: 11-12
وبناءً على ذلك فنحن بحاجة دائمة إلى دعوة الإنسان لتحرير عقله من تلك المفاهيم الزائفة، وإلى إحداث نوع من الوعي بالمفاهيم الإسلامية المحْكَمة، وبثِّ الروح من جديد في هذه المفاهيم.
وأحد تلك المفاهيم الخصبة الأصيلة في الفكر الإسلامي، هو مفهوم (التجديد)، وهو من المفاهيم التي أحدثت كثيراً من الجدل في الوسط الفكري في القديم والجديد، وقد يكون من أسـباب ذلك الإجمـال الـذي يكتنـف لفـظ (التجـديد)، وهذا ما جعله عُرْضة لأن تختلف المناهج في معالجته تبعاً لاختلاف فكر أصحابها، حتى تمكَّن بعض دارسيه من استخدامه لتغيير معالم الدين بدعوى تجديده؛ لكن هذا المفهوم يحفزنا نحو تجديد الرؤية في الموضوعات التي نتطرق إليها تجديداً ملتزماً بمحكمات الشريعة ومبادئها، وهذا ما يجعلنا مطالَبين على نحو دائم بتجديد طريقة تناولنا لكثير من القضايا التي تشغل هذا الواقع المتجدد. وليس المقصود هنا البحث في هذا المفهوم، وإنما تسليط الضوء على جانب من جوانبه فهو يُستخدَم على مستويات عديدة وفي مجالات مختلفة، يعنينا منها في هذا المقال التجديد على الصعيد الفقهي؛ أي: (تجديد الفقه)، والمقصود من الحديث حول هذا المفهوم محاولة نقل مركزية الحديث من حقل تجديد الفقه إلى حقل تجديد الفقيه؛ وهو حامل هذا الفقه. وموجب هذا النقل أن مَنْ يتابع المعالجات الـمُحْكمة التي طُرحت لنقاش هذا الموضوع يرى اقتصارها على جانب واحدٍ من جوانبه؛ وهو جانب تجديد العلم نفسه، في حين أن ثمة جوانب أخرى ربما لا تَقِل أهمية عن سابقتها غاب الحديث عنها أو كاد، ومنها الحديث عن تجديد (الفقيه)؛ أي: إعادة النظر في وسائل إعداده وتأهيله.
وإن عمليـة نقـل مـركـز الحـديث نحـو تجـديد الفقيـه لا تعني القطيعة مع مفهوم تجديد الفقه، ولكنها تعني بشكل أساسي توسيع مساحة البحث في جوانب أخرى مهمة في هذا الموضوع.
لماذا تجديد الفقيه؟
في وقت تعقدت فيه مسائل الفقه الواقعية نظراً لتعقُّد الواقع وتشابكه وتداخله، أصبح من الضروري إعادة هيكلة المحاضن التربوية والعلمية التي تصنع الفقيه؛ فلم تَعُد إشكالية هذا الموضوع تنحصر في جانب العلم نفسه وتجديد أساليبه وموضوعاته؛ بل تجاوزت ذلك إلى الفقيه الجديد ونمط تنميته وتطويره. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وربَّ حامل فقه وليس بفقيه»[2] إلى التفريق بين الفقه نفسه وبين حامله؛ وهو ما يعني أن حَمْل الفقه لا يُلبِس صاحبَه لقب (الفقيه).
لقد أصبح كافياً في وعي كثيرين أنه حتى يتسمى الدارس باسم (الفقيه)، وحتى يباشر الحديث حـول القضـايا الفقهيـة، لا بد أن يضبط جملة الفروع الفقهية من بعض الكتب المختصرة، ويستحضر أدلتها، ويعرف الراجح فيها وبذلك يحظى بأن يكون واحداً من الفقهاء، وبسبب هذا النمط من التفكير قلَّت العناية بالبرامج التدريبية العملية لتمنية الفقيه وتطويره. يقول الطاهر بن عاشور في وصف هذه الحال: «وكان معنى العلم عندهم: هو سعة المحفوظات - سواء من علوم الشريعة أم من علوم العربية - فلا يعتبَر العالم عالماً ما لم يكن كثير الحفظ، وليس العلم عندهم إلا الحفظ؛ لأنهم كانوا يميلون إلى شيء محسوس مشاهَد في العالِم؛ ومن المعلوم أن الذكاء والنباهة لا يشاهَد لأحد»[3].
إنه لم يعد كافياً حتى يكون المتعلم فقيهاً فاعلاً في واقعه أن يكتفي بما ترسمه بعض كتب التراث من شروط لمواصفات الفقيه؛ لأن ثمة معارف جديدة تتطلب من فقيه اليوم قَدْراً من الـدراية والإحاطة لا نجـد الحديث عنها بالقدر الكافي في صورة الفقيـه القديمة، وإن السعي لاستنساخ ذلك دون محاولة تطويره أو معرفة الفوارق بين الحاجات العلمية التي كان يتطلبها واقعه وبين حاجات واقعنا العلمية، يعني مزيداً من خلق المشكلات في حياة المتلقين؛ بل ربما أدى ذلك إلى إضعاف هيبة الفقه الإسلامية، وتعرُّضها لكثير من النقد والتشكيك بسبب عدم تأهيل حامليه التأهيلَ المناسب لهذه المرحلة الجديدة، ولقد كانت هذه المشكلة - وهي ضعف تأهيل الفقيه - إحدى أسباب تقليل المتكلمين من شأن الفقه وجعلهم أغلبَ فروعه من باب الظنون وليست من باب اليقين؛ وذلك بسبب ضعف استعداد الفقهاء الذين قدَّموا لهم الفقه في تلك المرحلة. يقول ابن تيمية في ذلك: «إنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء، استطال عليهم أولئك المتكلمون، حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم، لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم»[4].
إن ما قاله ابن تيميـة من استطالة المتكلمين على الفقهاء في ذاك الزمن، ربما قد يتكرر في هذا الزمن لكن بصورة أخرى وهي صورة التشكيك الفكري التغريبي في أحكام الفقه الإسلامية، وإن من أهم سبل مدافعته: التأهيل المناسب للفقيه الجديد الذي يستوعب مقالات هذا الفكر حتى يُحسِن مدافعته، «ومن لم يعرف أسباب المقالات - وإن كانت باطلة - لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم»[5].
وإن حالة الضعف الفقهي في كتب متأخري الفقهاء هي التي جعلت شيخ الشاطبي يوصيه بعدم الانشغال بكتب الفقه المتأخرة في زمانه والاكتفاء بما كتبه المتقدمون في الفقه؛ حيث يقول: «وأما ما ذكرتُ لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك مني - بحمد الله - محضَ رأيٍ؛ ولكن اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقـدمين مـع كتب المتأخـرين، وأعنـي بالمتأخـرين: كابن بشـير (ت بعد 526هـ)، وابن شـاس (ت 610هـ)، وابن الحـاجب (ت 646هـ)، ومن بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة في السمع لكنها محض النصيحة»[6].
لكن الونشريسي كشف عن تلك العبارة الخشنة التي أبهمها الشاطبي، فقال بعد ذكر كلامه: (والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان - رحمه الله - ينقلها عن شيخه أبي العباس أحمد القباب (ت حوالي 779هـ)، وهي أنه كان يقول في ابن بشير وابن الحاج وابن شاس: فسَّدوا الفقه)[7]؛ أي: أفسدوا الفقه.
وحتى يتضح عمق الحاجة لإعادة صناعة الفقيه الجديد فَلْنبتعد قليلاً عن حالنا اليوم وَلْنتأمل حجم التعقيدات الواقعية المستقبلية في ذهن المتعلم الذي نريد تأهيله ليكون فقيهاً لأمته بعد ثلاثين سنة؛ هل الطرق المنهجية المتداولة اليوم في الساحة العلمية كافية لتأهيل هذا الفقيه ليكون الرجل المناسب لتلك المرحلة؛ أم أننا بحاجة لآليات عملية جديدة تساعد في تأهيل الفقيه الجديد لتعقيدات المستقبل المنتظرة؟
أتصور أن هذا التساؤل هو من جنس التساؤلات الكبيرة التي من غير المنطقي أن يتلخص جوابها في مقال مختصر كهذا، وحَسْبُ هذا المقال أن يضع مجموعة من الرؤى التي يمكن أن تساهم في توضيح هذه القضية.
تجديد الفقيه مسؤولية مَنْ؟
يحيلنا الحديث عن مسؤولية تجديد الفقيه وتأهيله إلى الحديث عن واقع العمل المؤسسي في الوسط التعليمي الشرعي؛ فإن الراصد لحركة التعليم خارج إطار الجامعات والكليات يجد أنها تفتقد كثيراً لنظام مؤسسي مبنيٍّ على رسم إستراتيجيات تعليمية بعيـدة المدى، وربمـا يصـدق في واقعنـا - وإلى حد كبير - ما قاله مالك بن نبي: «لم أكـن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرضه من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بَعْدُ خصوصاً بين مثقفيه»[8].
فبينما نلاحظ توجُّها منظَّماً نحو تخريج النجوم والرموز في الفن والرياضة والإعلام، لا نجد جهداً يوازيه في تأهيل وتخريج وتطوير أصحاب التخصصات الشرعية، وإن الذي يتابع سِيَر كثيرٍ من فقهاء اليوم يجد أن الذي صنعهم في الغالب هو جهدهم الذاتي - بعد عون الله سبحانه - ولم تصنعهم مؤسسات تعليمية معيَّنة.
وإن ما سيُطرح من رؤى وأفكار حول هذا الموضوع – سواء في هذا المقال أو غيره - ربما تُفهَم على أنها دعوات مثالية، وهذا صحيح إذا ما نظرنا إليها على المستوى الفردي وليس المؤسسي؛ أما على صعيد المؤسسات فهي ليست كذلك، كما أن التطبيق العملي كفيل بأن يُهذِّب هذه المثالية حتى تتناسب مع الواقع العلمي.
تجديد ملكات الفقيه:
إن الدراسة الفقهية اليوم تتسم بالتقرير المدرسي من خلال دراسة الكتب المذهبية المعتمَدة، ويغيب فيها الدرس الذي يعتني بالتدريب الفقهي أثناء عملية التأهيل الفقهية، والذي يتدرب فيه المتفقه على مجموعة من المهارات الفقهية لتبني له عدداً من الملَكات العلمية؛ فالفقيه الجديد يتطلب في إعداده وتكوينه جملةً من المهارات التي تساعده في تحقيق رسالته بالشكل المطلوب في هذا الزمن، ومن المهارات التي ينبغي أن يُدَرَّب عليها الفقيه الجديد:
أولاً: بناء مَلَكَة التفكير الفقهي:
التفقه في أصله عملية فكرية؛ لأنه راجع في أصل معناه إلى (الفهم)؛ فهو نوع من ممارسة التفهم في نصوص الشرعية، وعملية التفكير هذه لا تتأتَّى من خلال التلقين المجرد للفروع الفقهية، وإنما من خلال توجيه الدرس الفقهي إلى حَلْقات علمية خاصة تهتم بتطوير عقلية المتفقه الجديد وتمرينها حتى تكتسب القدرة العالية على معالجة المسائل وإدراكها.
وحتى لا يجاهد المتفقه الجديد في غير ميدانه، ولا يستنبت عقليته في أرض غير صالحة؛ فمن المهم أن تكون عملية التمرين والتطوير في ميدانها المناسب، ومن تلك الميادين التي تساعد على تقوية تفكير الفقيه ما يلي:
1 - بناء الملَكة التي تعتمد على إرجاع فروع الشريعة إلى كليَّاتها العامة: وذلك حتى يُعرفَ مدى اطراد التشريع الإسلامي، ويتمكن الفقيه من إرجاع الفروع بعضها إلى بعض، وإظهارها على وجه متماسك مطَّرد.0 والمتأمل في واقع التعليم الفقهي اليوم يجد أن الغالب عليه تقرير آحاد المسائل الفقهية بعيداً عن الاهتمام بربط هذه المسائل بمثيلاتها وما يعضدها من كليات الشريعة وأصولها الكبرى. يقول ابن رشد منبهاً إلى هذا المعنى: «رأينا أن نذكر في هذا الكتاب (كتاب الصرف) سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب؛ فإن هذا الكتـاب إنمـا وضعنـاه ليبلغ به المجتهد في هـذه الصناعة رتبة الاجتهاد... وبهـذه الرتبـة يسمى فقيهـاً لا بحفظ مسائل الفقه؛ لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر»[9].
وبسبب فَقْدِ هذه الملَكة أصبح من غير المستغرَب أن يُقرِّر بعض الفقهاء مسألة في بابٍ على وجهٍ، ثم يقرر في نظيرها تقريراً مخالفاً لها في باب آخر وكلاهما يرجعان إلى تأصيل واحد. يقول ابن تيمية عن حال بعض متبعي الأثر ممن قلَّت معرفته بطريقة التعامل مع القياس الصحيح: «وتجد المستن الذي يشاركه في القياس قد يقول ذلك القياس في مواضع، مع استشعاره التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة؛ وهو الأغلب»[10].أما الجويني فيقول أثناء بيانه لأصول مذهب الشافعي: «ومن أراد أخذ المذهب (أي: الشافعي) مِنْ حفظ الصور: اضطرب عليه أمثال هذه الفصول، ومن تلقَّاه من معرفة الأصول: استهان عليه أن يدرك هذه الفصول». وفي نهاية الأمر فإن «نقل الفقه إن لم يعرف الناقلُ مأخذَ الفقيه، وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيراً»[11].
2 - بناء الملَكَة التي تراعى فيها الأحكام اللازمة عندما تتحول إلى أحكام عارضة؛ أي: عندما يتحول الحكم الواجب إلى حرام، والحرام إلى واجب أو مباح؛ بحسب العوارض التي تَعرِض لهذه الأحكام وَفْقاً لفقه الضرورة أو المشقة أو الحاجة: إن من يتأمل الفقه يجد أنه في الغالب يعطي المتفقه الأحكام اللازمة؛ لكنه في كثير من الأبواب قد لا يعطيه الأحكام العارضة، فهو يقرر الحكم بناءً على الأصل؛ لكن هذا الأصل قد يحتف به مجموعة من الأمور الواقعية التي قد تغيِّر من طبيعة النظر في المسألة؛ وحينئذٍ فإن طريقة التعامل معها محكومة بمجموعة من المعايير ليست من اهتمام كتب الفقه وإنما مجال بحثها: إما علم القواعد الفقهية: كقاعدة المشقة والضرورة والعرف ونحو ذلك. أو علم أصول الفقه في مبحث عوارض الأهلية، ومبحث الأسباب والشروط والموانع.
إن كثيراً من المتفقهة يمكنه أن يضبط قاعدة المشقة أو قاعدة الضرورة والحاجة من جهة التنظير الكلي العام لكنه قد لا يُحسِن تنزيلها على الواقع، وحينها ربما قد يحصل منه إفراط أو تفريط في التطبيق، وسبب ذلك: أنه لم يتدريب على ذلك في الدرس الفقهي، وهذا ما يؤدي به إلى ضعف الملكة في هذا الباب، كما أن التدريب على هذه المَلَكة وإن لم يُمَكِّن المتفقه من تنزيل بعض أحكامها على الواقع، فليس أقلَّ من أن يساعده على تَفهُّم بعض فتاوى العلماء التي ذهبت إلى القول بجواز مسألة هي في أصلها حرام بناءً على قاعدة الضرورة أو المشقة أو الحاجة أو العكس، وهذا التفهم من شأنه أن يساهم أيضاً في معالجة واحد من أهم أسباب الفرقة والتناحر التي يشهدها الوسط الشـرعي. يقـول ابن تيمية في ذلك: «فإن كثيراً من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها ثواب الحسنة ما يربو على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجاً في المحبوب، أو يصير مباحاً إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة...» ثم تحدث عن الصورة الثانية وقال: «فهذا القسم كثر في دول الملوك؛ إذ هو واقع فيهم وفي كثير من أمرائهم، وقضاتهم، وعلمائهم، وعبَّادهم؛ أعني: أهل زمانهم، وبسببه نشأت الفتن بين الأمة»[12].
كما أن التدريب على هذا النوع من التفقه يُعيْن على إعادة حالة التوازن بين من جَعَل الحُكم العارض الذي فرضته بعض الظروف حكماً لازماً في جميع الأزمنة؛ لأن الخطأ في ذلك ربما يتسبب في الجناية على بعض أحكام الشريعة، وإلى هذا نبَّه ابن القيم عندما بيَّن خطأ بعض المتفقهة في فهم بعض تصرفات عمر - رضي الله عنه - فقال: «والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة يختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذر وأجر»[13].
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً