عرض مشاركة واحدة
قديم 03-13-2011, 05:03 PM   #2
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي

3 - بناء الملَكة التي تُحسِن التوازن بين اعتبار المدلول اللفظي للنص وبين تفعيل مقصوده: إن الدرس الفقهي اليوم يتحدث عن المقاصد وأهميتها حديثاً نظرياً، وهذا أمر إيجابي لا بد من تكثيفه؛ لكن هذا الدرس في المقابل لا يعتني بالتدريب الفعلي لتطبيق فقه المقاصد، والإشكال الحقيقي في هذا الموضوع يكمن في أن من يحسـنون التنظيـر والضبـط لموضـوع المقاصد كثيراً ما يحصل بينهم نزاع أثناء التطبيق؛ وذلك لأن الدخول في التفاصيل هو الذي يبين دقة الفهم وعمق الإشكال، والطاهر بن عاشور أشار إلى هذا المعنى وبيَّن أن المفاصل الكبرى في باب المقاصد والمصالح والمفاسد، مقام سهل؛ لكن المشكلة تتعقد عندما تأتي التفاصيل والتطبيقات، فقال: «فأصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة؛ فمقام الشريعة في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هين. واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير، فأما دقائق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك؛ وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداءً وغفلةً وقبولاً وإعراضاً»[14].
وهذا النوع من البحث المقاصدي التفصيلي هو البحث الأخطر في باب المقاصد. يقول ابن عاشور في موطن آخر من كتابه: «وفي إثبات هذا النوع من العلل (وهو ما كانت علته خفية) خطر على التفقه في الدين؛ فمِن أجل إلغائه وتوقِّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس، ومن الاهتمام به تفننت أساليب الخلاف بين الفقهاء»[15].
وإن تدريب المتفقه من زمن مبكر على محاولة التطبيق والتدريب على استعمال المقاصد في حقول التعليم الخاصة وتحت الإشراف العلمي المتزن، سيعين على تجنُّب كثير من مشكلات التفعيل المقاصدي التي نشهدها اليوم؛ فإنه على الرغم من الضعف التأصيلي لفقه المقاصد عند بعض من يمارسه إلا أن مشكلات التفعيل المقاصدي لا تنحصر في ذلك، بل من مشكلاته أيضاً: عدم امتلاك كثيرٍ ممن يمارس التفعيل المقاصدي لملَكة هذا التعامل التي تحتاج إلى قَدْر من الخبرة والنضوج حتى يمتلك الفقيه ناصيتها، وابن تيمية أشار إلى أهمية هذا النوع من الإدراك وأنه يتطلب خبرة طويلة وممارسة عملية فقال: «العلم بصحيح القياس وفاسده من أجلِّ العلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشريعة ومقاصدها وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد»[16].
4 - ويتبع ذلك بناء الملَكة التي تُحسِن التعامل مع فقه المصـالح والمفاسـد: وإن بنـاءَ هـذه الملَكـة ســيسـاعد كثيراً في التعـامل مع كثيـرٍ مـن الوقائع المشكِلة، وسـيسـاعـد أيضـاً - وبشكل كبير - على تجـاوز كثيـرٍ من الخلافـات العلمية التي تحصل بناءً على عدم الاستيعاب الكافي لهذه القضية. يقول ابن تيمية: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجِّحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجِّحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم العمل بالحسنات، وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء... فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل؛ قد يكون الواجب في بعضها... العفو عن الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط: مثل أن يكون نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر»[17].
وهذه المهارات والـمَلَكات الفقهية لا تؤخذ بمجرد التقرير النظري ما لم يكن معها ممارسة عملية تدريبية. قال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء. فقال: «إن القضاء لا يُعَلَّم، إنما القضاء الفهم، ولكن قل: علمني من العلم»[18].
إن المهارات التي نتحدث عنها هي من جنس مهارة القضاء، هي بحاجة إلى تطبيقات عملية من خلال إقامة دورات علمية متخصصة، أو إجراء حلقات حوارية تتبنى سياسة التدريب الفقهي، سياسةً عملية تنتقل من مجرد التجريد النظري لفقه المقاصد والمصالح والقواعد والضرورة إلى حلقات وبرامج تطبيقية تجمع عدداً من قضايا الواقع التي يلامسها المتفقه ولا يُحسِن التعامل معها ثم تُطرَح على طاولة النقاش والمباحثة العلمية.
وإن كثيراً من الحلْقات التي اهتمت بجانب المسائل الواقعية اعتمدت على أسلوب جمع بعض مسائل النوازل وتقرير الكلام فيها بعيداً عن الحوار والنقاش الذي يُرسِّخ في ذهن المتعلم مأخذ المسألة، ومواطن الخطأ والصواب أثناء عملية التطبيق، وإن أسلوب التقرير المجرد سيحوِّل هذه المسائل النوازل بعد زمن إلى متن فقهي جديد يحفظه الفقهاء الجدد دون وعي كبير بطريقة النظر وأسلوب المعالجة.
ثانياً: بناء ملَكة الاعتدال الفقهي:
إن نفسية الشخص التي تربى عليها، كثيراً ما تؤثر على طبيعة تعامله مع القضايا العلمية والواقعية، ومن المهم إحداث نوع من التوازن في التعامل مع طبيعة تكوين الإنسان وشخصيته؛ ولذلك يقول ابن تيمية عن جانب من كمالات الشيخين - رضي الله عنهما -: «كان من كمال أبي بكر أن يولِّي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره، ويخلط الشديد باللين، فإن مجرد اللين يُفسِد، ومجرد الشدة تُفسِد؛ فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك... وأما عمر فكان شديداً في نفسه؛ فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي»[19].
وإن نفسية الفقيه ليست بمعزل عن هذا الكلام؛ فقد تؤثِّر نفسية الفقيه في اختياراته الفقهية، وفي طريقة عرضه للمسائل والخلاف الفقهي، وفي هذا المعنى يقول ابن حزم: «إن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتاً جداً: فمنهم رقيق القلب، يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس... ومنهم معتدل في كل ذلك يميل إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب، يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء»[20].
وفي ظل هذا التنوع الكبير في نفسيات المتلقين فإن واحداً من أهم عوامل بناء الاعتدال الفقهي وضبط عملية التوازن، هو أن يتعلم المتفقه الجديد مرتبة الخلاف في المسائل التي يتلقاها؛ وهذا من خلال معرفة ضوابط الخلاف السائغ وغير السائغ بين العلماء، وكيفية التعامل مع كل نوع من هذه الخلافات من حيث القائلُ، والقولُ، وطريقةُ المناقشة؛ لا يتعلمه من الجهة النظرية فحسب، بل يتعلمه من الناحية التطبيقية، فيُعْرَض عليه كثير من المسائل ليطبِّق عليها تلك الضوابط؛ لأن بناء النفسية المعتدلة في الأداء الفقهي يحتاج إلى تدريب وممارسة من خلال عقد حوارات علمية تعليمية يتدرب فيها المتفقه على أسلوب النقاش والحوار، وعندما يتدرب على ممارسة الحوار والنقاش في مكان علمي هادئ، سيتمكن من تطوير نفسه في التعامل مع أقوال الآخرين.
لقد نجح خطـابنا الفقهي في تربية المتفقه على لغة الراجح ولغة البحـث عن الدليل؛ لكـن هـذا الجانب - على أهمـيتـه - لا يكفـي وحـدَه؛ بل لا بد أن يتـربى وعـي المتفقـه - بالإضافة إلى القول الذي يختاره ويدين اللهَ به - على معرفة كيفية التعامل مع الأقوال الأخرى التي لا يعتقد رجحانَها، وهذا يعني أن ينضم إلى لغة الراجح والمرجوح لغةُ الخلاف السائغ وغير السائغ، وإن هذا التدريب سيجنِّب المتفقه التعصب لهذا الراجح الذي يعتقده؛ ليس من جهة الالتزام به وإنما من جهة عدم اعتداده بالأقوال الفقهية المعتبَرة الأخرى لمجرد أنها ليست راجحة.
وإن إدراك هذا الجانب مهم في تكوين الفقيه. يقول ابن تيمية عـن حـال غالـب الفقهـاء وعــدم تمييـزهـم بين درجـات المسـائل وهو ما يفقدهم الاعتدال في تقرير حكمها: «وأما الخائض فيه (أي: الفقه) فغالبهم إنما يعرف أحدهم مذهب إمامه، وقد يعلمه جملـة، لا يميز بين المسائل القطعية المنصوصة والمجمَع عليها، وبين مفاريده، أو ما شاع فيه الاجتهاد؛ فتجده يفتي بمسائل النصوص والإجماع من جنس فتياه بمسائل الاجتهاد والنزاع... لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين، بل هم نَقَلَة لكلام بعض العلماء ومذهبه»[21].
تفعيل مهارة البحث الفقهي:
عندما لا يتسلح الفقيه بقدر كافٍ من الملَكة البحثية فمن الممكن أن يؤثر ذلك على صـناعته الفقهيـة، وكثيـرٌ من المتعلمين لا يملك إلا قدراً متواضعاً من معرفة المصادر العلمية، ومناهجها، وكيفية التعامل معها، وهذا يتطلب حلقات تعليمية لا تكتفي بمجرد سرد المصادر وبيان طرق وأساليب البحث؛ بل تنتقل إلى داخل أروقة المكتبات العامة، لتُعَرِّف المتفقهةَ الجدد بمصادر العلوم، ومن ثَّم تكليفهم ببحوث عملية داخل هذه المكتبات، وتقيم عدداً من المناقشات العلمية حول بعض البحوث المعاصرة ومعرفة مَواطن التميُّز المنهجي فيها ومواطن الضعف.
كما أن من جوانب البحث المهمة تفعيل دور البحث التاريخي في العلوم؛ فمن المهم أن يُدرَّب المتفقه الجديد على استكشاف الجانب التاريخي للعلوم والمسائل؛ فقد يدرس المتعلم علم الفقه أو غيره؛ لكنه لا يملك دراية كافية بالتطور التاريخي لهذا العلم ومسائله؛ مع أن هذه المعرفة التاريخية لها أثرها الكبير في فتح ذهنية المتفقه إلى إشكالات العلم، وتفريعاته، وأساليب بنائه.
وإن بناء هذه المنهجية البحثية عند المتفقه ستقوده للوصول إلى الصواب الذي يبحث عنه، فإن «من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه»[22].
تنمية مهارة التواصل الفقهي مع الجماهير:
تواصل الفقيه مع الناس من خلال الكتابة أو الحديث المباشر بحاجة إلى مهارات لا بد من امتلاكها، ومن خلالها يمكن أن يوصل الفقيه رسالته للآخرين على أكمل وجه، ومن الزوايا المهمة في هذا الجانب ما يلي:
1 - في الوقت الذي كثرت فيه الشُُّّبه والتشكيك في الأحكام الشرعية فنحن بحاجة إلى لغة الحديث التي تعتمد أسلوب الإقناع بالأحكام إلى جانب التقرير العلمي المجرد، والتي تُبين محاسن التشريع الإسلامي وفلسفته في تقرير أحكامه، بل تتعدى ذلك إلى مقارنته مع أحكام الشرائع الأخرى حتى تظهر سماحة هذا الدين وتميُّزه عن غيره من الديانات. يقول ابن تيمية: «وإنما ننبه على عِظَم المصلحة في ذلك بياناً لحكمة الشرع؛ لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقياداً ، والنفوس إلى ما تطَّلع على مصلحته أعطش أكباداً»[23].
وربما كان من أخصر الطرق للإقناع - أو حتى الإحراج لمن لا يريد ذلك - أن يستعمل الخطابُ لغة الأرقام والإحصائيات في تأييد بعض الأحكام الشرعية، أو أن يذكر بعض التجارب التي حصلت في بلاد أخرى حول بعض القضايا الشرعية.
2- ونحن بحاجة في لغة الفقيه الجديد إلى لغة تراعي في حديثهـا البعـد العـالمي، وإن مـراعــاة هـذا البعـد يعني أن الفقيـه لا يكفيه اعتماده على الرصيد الشعبي الذي يجده بين بني قومه، بل لا بد من حديث يستند إلى الأساس العلمي أكثر من استناده إلى الأساس الذاتي الذي يرجع لشخص الفقيه، ويُلْمح ابن تيمية إلى قريب من هذا المعنى؛ حيث يقول: «الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما اختص بعلمه المجيب؛ إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به»[24].
ومن أجل هذا النوع من العالمية فإننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في الأسلوب الذي يعتمد على (اجتماع الجيوش) والذي يجمع صحيح الاستدلال مع ضعيفه من باب تضافر الأدلة، ولنقدِّر له أحواله الخاصة، ولنقتصر في الاستدلال على الاستدلالات الصحيحة، مع استبعاد ما لم يكن كذلك حتى لا يُشَغب عليها.
3 - ونحن بحاجة كذلك إلى اللغة التي لا تستغرق في مشكلات البيئة التي يعيش فيها المتحدث؛ بل تتجاوزها إلى مراعاة المشكلات التي يعاني منها المسلمون في بلدان أخرى إسلامية وغير إسلامية، وإن تسميتنا لفقه بعض هذه البلدان بـ (فقه الأقليات) ربما أشعرتنا أحياناً بجعل هذا الفقه على هامش الاهتمام والعناية، لكن الواقع اليوم يثبت أن مسائل هذه الأطراف لم تعد تعني (أقلية) في قطر معيَّن، بل إنها تعني في بلدان أخرى (أكثرية) لكنها محكومة بنظام غير إسلامي ويتعرض أهلها للمشكلات نفسها التي تتعرض لها الأقليات في بلدان أخرى، ثم إننا عندما نغض الطرف عن مقارنتهم بغيرهم فإنهم لم يعودوا (أقلية) بل أصبحت الأرقام تتحدث عنهم بلغة الملايين، ثم إن هذه الأقلية أصبحت مندمجة بصورة غير مباشرة مع الآخرين، فأصبحـتَ لا تكاد تستمع لبرنامج مباشر يتلقى فيه الفقيه أسئلة من هنا أو هناك إلا وتجد عدداً من المشاركات التي تأتي من تلك البلدان؛ لتسأل وتستفسر عن مشكلاتها، بل ربما تستشكل بعضَ الأجوبة التي لا تراعي أحوالها.
تجديد معارف الفقيه:
الفقيه الجديد ينبغي أن يُدْخَل في إعداده وتكوينه مجموعة من المعارف التي تطلبتها التحولات الكبيرة التي يشهدها واقعه، وقبل أن أدخل في دائرة هذه المعارف فإننا لا نريد أن نحوِّل الفقيه الجديد إلى رجل أسطورة تجتمع فيه كافة التخصصات والمعارف، بل كل الذي نريده أن ننظر إلى تلك المعارف بقدر من الاعتدال بين دعوات تدعو أن يكون الفقيه موسوعي المعرفة، وبين دعوات أخرى تريد أن تهمِّش الفقيه حتى تُفقدَه دورَه الإصلاحي بحجة عدم إدراكه لما يتحدث عنه.
إن هذه المعارف ستساعد الفقيه على استيعاب عمق المسائل المطروحة عليه؛ فيُميِّز بين تلك المسائل التي يحتاج إلى تحويلها إلى المتخصصين في مجالها، وبين تلك المسائل التي يمكن للفقيه بما يملكه من معارف ضرورية أن يتحدث حولها.
كما أن المقصود من إدراك هذه المعارف، هو إدراك القَدْر الأساسي الذي لا يسعه جهله، وليس المراد المعرفة الشاملة التي يحتاجها المتخصصون.
فعندما يتحدث الفقيه عن مسألة الربا، ويُبيِّن شيئاً من آثارها، فلا بد أن يكون على دراية بالقدر الأساسي من المعرفة بنظام الاقتصاد الدولي الحديث ونحو ذلك من معارف الاقتصاد الأساسية.
كمـا أن الواقـع المعاصـر أصبـح يفـرض علـى فقيــه اليـوم - وبشكل متزايد - واجبات أكبـر من واجبات الفقيه السابق؛ فإن كثيراً من الناس مهما تحدثنا معهم عن اختلاف التخصصات، واختلاف الأدوار، فلا يزال عند شريحة كبيرة منهم نوع من التمسك بالتوجيه الذي يتلقاه من الفقيه، ومن أكبر أسباب ذلك البعد الديني الذي يحتاجه السائل في حل بعض هذه المشكلات، ومن ثَمَّ فلم يعد بوسع الفقيه اليوم أن يتجنـب التوجيـه الاجتمـاعي الرشيد وهـو يجيـب المسـتفتي - مثلاً - حول مسألة الطلاق أو اللعان؛ لأن كثيراً من الناس اليوم عندما يسألون قد لا يطلبون من الفقيه فقط بيان الحكم الشرعي للطلاق الذي هو داخل دائرة اختصاصه، بل إنهم يسألونه ليرشدهم كذلك كيف يواجهون مشكلاتهم التي تقودهم إلى الطلاق؟ وهذه وظيفة أخرى ليست داخلة تحت دائرة اختصاصه، وهذا يعني أنه قد أضيف له دور آخر غير دور الإفتاء المجرد.
وإن السائل الذي يأتي ليسأل حول بعض المسائل التي تتعلق بالوسوسة في أداء العبادات تتطلب من الفقيه أن يدرك بعض أساسيات التعامل مع مرض الوسوسة ويمكنه بعد ذلك أن يوجه السائل إلى متخصص في هذا المجال.
فهل سنضيف لمعارف الفقيه الجديد قدراً - ولو متواضعاً - من بعـض الأسس التـربوية والنفسـية في التعـامل مع مشـكلات الحياة، كالمشكلات الزوجية وغيرها؛ من التي كثيراً ما تتردد على ألسنة الناس؟
وفي جانب آخر من المعارف فإن حديث الفقيه حديث يراد منه إحداث التغيير في المجتمع؛ وهذا يعني أن يدخل في بناء الفقيه الجديد معارف ضرورية في سُنن التغيير في المجتمع، فليس من دور الفقيه أن يُبيِّن الحكم للناس دون مراعاةٍ لأبعاد هذا الحكم، أو النظر في إمكانية تطبيقه على أرض الواقع. يقول ابن تيمية في هذا المعنى: «فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخَّر الله - سبحانه - إنزالَ آياتٍ، وبيان أحكام إلى وقت تمكُّن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها... ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فَعَل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16][25]، وفي سير الأنبياء ثروة عظيمة من سنن التغيير في المجتمعات استفادت منها مجموعة من الدراسات الإسلامية التي كتبت في (علم الاجتماع).
أنني أُدرك إدراكاً تامّاً أن هذه الرؤى التي تقدمت إنما هي بحاجة إلى مزيد من المراجعة والتنقيح، والحديث حولها بحاجة كذلك إلى مجموعة من الورش العملية التي تخرِّج الرؤى حول هذا الموضوع أكثر نضجاً وواقعية، ولعل هذه الأسطر أن تثير مجموعة من التساؤلات حول هذا الموضوع الكبير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.







[1] القطيعة الإبستيمولوجية: مصطلح فلسفي أسسه العالم الفرنسي غاستون باشلار، ويذهب فيه إلى أن حركة تاريخ الفكر تمر بمجموعة مراحل انتقالية كل مرحلة تحدث قطيعة وانفصالاً مع مفاهيم وبنية تفكير المرحلة السابقة. وهي فكرة ليست محل اتفاق تام في الحقل الفلسفي الغربي، لكن عدداً من المفكرين العرب: كمحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهاشم صالح، يدعون لتطبيق هذه الفكرة في واقع الفكر الإسلامي.
[2] أخرجه الترمذي.
[3] أليس الصبح بقريب، ابن عاشور، (ص: 46).
[4] الاستقامة، ابن تيمية، (1/ 56).
[5] الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، (1/244).
[6] فتاوى الإمام الشاطبي، (ص: 120 - 122).
[7] المعيار المعرِب والجامع المغرِب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، (11/142).
[8] مذكرات شاهد على القرن، مالك بن نبي، (ص 236).
[9] بداية المجتهد، ابن رشد، (1/ 664).
[10] الفتاوى، ابن تيمية، (4/ 46).
[11] اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/541).
[12] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (35/28).
[13] الطرق الحكمية، ابن القيم، (1/47).
[14] مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص 258).
[15] مقاصد الشريعة، ابن عاشور، (ص 151).
[16] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (20/ 583).
[17] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (20/57).
[18] تهذيب الكمال، المزي، (3/435).
[19] منهاج السنة، (6/ 138).
[20] الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، (4/ 138).
[21] الاستقامة: 1/60.
[22] الفتاوى: 13/ 367.
[23] الصارم: 3/905.
[24] الفتاوى: 4/ 168.
[25] الفتاوى: 20/58 - 65 .

__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً