تسجيل الدخول

قديم 02-02-2014, 09:43 AM   #1
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
Thumbs up سورة آل عمران.



يستطيع قارئ سورة آل عمران؟ أن يستبين على عجل موضوع السورة الكريمة، فهى تدور على قضيتين كبيرتين. الأولى: حوار مع أهل الكتاب الذين يخاصمون الإسلام داخل المدينة. والأخرى: تعليق على هزيمة أحد التى أصابت المسلمين بجرح غائر، وأدخلت الأحزان إلى عشرات البيوت... والحديث فى كلتا القضيتين يأخذ بدايته منفردا فى أول السورة ووسطها، ثم يختلط الحوار والتعليق أواخر السورة، كأن جهاد الدعوة يقضى بالثبات فى الموقفين، ويوجب على المسلمين مواجهة مشتركة لكيد اليهود داخل المدينة وهجوم الوثنيين عليها تمشيا مع عدوانهم السابق.. إننا نعرض دعوتنا على الأحزاب كلها، عرضا لا جور فيه ولا عدوان، فمن استجاب آخيناه، ومن أعرض تركناه، ومن اعتدى تصدينا له معتمدين على الله. وتلمح هذا الموقف فى قول الله هنا " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ". تبدأ السورة ببيان أن الإسلام هداية عامة وأن كتابه مصدق لما أنزل الله من قبل، وأن الوحى الإلهى كله فرقان بين الحق والباطل، وأن موسى وعيسى ومحمد يسيرون فى خط واحد، وأن دائرة الإسلام تشمل الأديان كلها على اختلاف الزمان والمكان. وقد سمى الله التوراة والإنجيل والقرآن " آيات الله ".. وننبه إلى أن هذه الكلمة " آيات الله " تكررت عشر مرات فى هذه السورة، بدأت بقوله تعالى : " إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام " وانتهت بقوله تعالى:
ص _028
"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا..." ولا تناقض بين عناصر الإيمان، ولا بين ما نزل على محمد وما نزل على أخويه السابقين موسى وعيسى. إن التناقض يقع بين وحى الله وأكاذيب البشر. والإيمان ـ كما يوضحه القرآن ـ : إيمان بما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبلنا.. وعلى المخالفين أن يثوبوا إلى رشدهم.. وأهل الكتاب صنفان: اليهود والنصارى، ولم يقع حوار ساخن بين المسلمين والنصارى داخل المدينة، وإنما حمى الخصام بين المسلمين واليهود الذين كونوا مستوطنات لهم فى المدينة نفسها، وشمالى الحجاز، والذين تصدوا للإسلام يكذبون الله ورسوله ويهاجمون وحيه، ويؤلبون عليه عبدة الأصنام فى شتى الأرجاء.. وقد أغراهم بالهجوم أنهم جمعوا مالا وعتادا، وقامت لهم ثروات وحصون، وذاك سر تكرار التنديد بمصادر قوتهم خلال هذه السورة الكريمة: " إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ". " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم " . " إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " . وأخيرا قوله تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ". والواقع أن الغنى المفرط ونسيان الله قد يطيشان بالأفراد والجماعات.. واليهود فى مستعمراتهم الأولى بالحجاز بلغوا شأوا من الرقى العمرانى والاقتصادى لم يبلغه عرب الجزيرة الأصلاء! فهل سخروا شيئا من هذا فى دعم الحق والشرف ومحاربة الفسوق والعصيان؟ كلا، ربما كان المجتمع الجاهلى الوثنى أرقى منهم خلقا، وخيرا مسلكا..

ص _029
ولذلك كان النبى الخاتم نعم المؤدب لهم عندما اشتبكوا معه مغرورين، فارتدوا على أعقابهم مدحورين، وانكسرت قواهم؟ وطاحت أموالهم . . لقد، استأثر اليهود بالوحى الإلهى أجيالا متعاقبة، فظل فى جنسهم أحقابا حتى زعموا أنهم أصحابه؛ وأنه يستحيل أن يتجاوزهم إلى غيرهم!. ولم هذه الاستحالة؟ كل امرئ يفقد أهليته لمنصب ما؟ يجب إبعاده عنه!! وقد صار اليهود آخر تاريخهم عاجزين تمام العجز عن الارتفاع إلى مستوى الوحى، فقلوبهم حجارة وأخلاقهم نذالة، وأثرتهم طافحة، وتخصصهم الأول والأخير التشبع من الدنيا والعكوف على مطالبها، والجراءة على الله، وكراهية أمره ورفض حكمه. فما بد من صرف الوحى إلى جنس آخر، قد يكون خيرا منهم حالا ومآلا، وهذا سر قوله تعالى: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " . وهذه الآية سبقتها آيات كانت مقدمات لهذه النتيجة أو "حيثيات " لهذا الحكم، منها قوله تعالى - قبل هذه الآية مباشرة: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات" . إنهم أمنوا العقاب الرادع فرفعوا راية العصيان السافر! وقرروا إهدار الشريعة وأحكامها... وكان الرد الإلهى تقرير العدالة العامة بين صنوف البشر، وأن مزاعم الأجناس لا وزن لها " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " والتعبير بكل نفس، يفيد أن الإضافات المفتعلة للأفراد لا قيمة لها، فالنفس الإنسانية المجردة تلقى جزاء ما قدمت، وسوف يحشر الناس عراة كما خلقوا، لا تكسوهم إلا ألبسة التقوى وحدها إن كانوا أهل تقوى! والكلام وإن كان تقريعا لليهود ففيه إيماءة خفية إلى غيرهم من الأمم، فإن الله لن يعاقب أبناء إسرائيل إذا فسدوا ويترك أبناء إسماعيل إذا قلدوهم فى سيرتهم، واقتفوا آثارهم، إن تشابه البيئات يقتضى تشابه العقوبات...

ص _030
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 02-02-2014, 09:44 AM   #2
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

وقد ظن اليهود أنهم لم يشرفوا بالتوراة، ولعلهم يحسبون التوراة شرفت بجنسهم فغالوا بأنفسهم على نحو دمرهم تدميرا. ويوجد الآن عرب يرفضون أن يشرفوا بالإسلام، فتراهم يجردون العروبة منه، أتظن عقباهم خيرا من بنى إسرائيل الذين مسخوا قردة وخنازير؟ إن سنن الله لا تتخلف، والناس لديه سواسية.. استغرق الحوار مع أهل الكتاب بضع عشرة صفحة، اتجه إلى اليهود أولا لأن المسلمين صلوا بنارهم، ولم أر فى الصفحة الأولى إلا إشارة خفيفة إلى النصارى تلقح عن بعد إلى ميلاد عيسى بن مريم، " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم " فالآية وإن تحدثت عن عمل القدرة العليا فى تخلق الإنسان، وملامحه المادية والأدبية، تشير إلى أن عيسى بن مريم واحد من ألوف الذين أبدعهم الخالق من عدم، وأفاض عليهم من الصفات المتفاوتة ما يثير العجب، بعضهم يعجز عن فهم ما يسمع ويرى، وبعضهم يخترق الحجب على نحو ما قيل: والألمعى الذى يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا. هناك من لا يحسن ركوب دابة، وهناك من يغزو الفضاء! هناك من يحتبس داخل هواه، وهناك من يفنى فى الله! وعيسى وإن ولد من غير أب إلا أنه مندرج فى سياق قانون القدرة، وأرى أن نؤخر الكلام عنه حتى نفرغ من اليهود أولا وموقفهم المريب من الإسلام.. * * * * كراهية اليهود للعرب قديمة، سببها الأول أن تحول النبوة عنهم بدأ بمحمد، وقد كانت لهم دالة على البشر ببقاء الرسالات السماوية فيهم، فلما رأوا الوحى ينزل بين العرب جن جنونهم، وكرهوا الأرض والسماء!! وقد اتجه إليهم الخطاب الإلهى منددا بهذا الموقف " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون "؟. وظاهر من هذا التوبيخ أن اليهود كانوا يعرفون يقينا أن محمدا حق، وأنه يتحدث باسم الله ، ص _031
وأن الله عاقبهم على معاصيهم التاريخية المتوارثة، ولكنهم بدلا من أن يصطلحوا مع الله، مضوا فى طريق المشاكسة والتحدى ينكرون النبوة الخاتمة ويحادونها بالكلام والسلاح، ويحيكون المؤامرات بين عبدة الأوثان حتى يصرفوهم عن الإيمان الصحيح. ولذلك تكرر فى أكثر من موضع لوْم اليهود على هذا الموقف الرديء " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات.."؟. ثم يجرى الله على لسان رسوله هذا التساؤل : " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون "؟. ويتفتق الفكر اليهودى عن حيلة خبيثة ليردوا الناس عن الإسلام ويصدوا عن سبيل الله، يقولون: إن الناس قد يتهموننا بالتعصب لما لدينا، ويظنوننا كرهنا الإسلام لذلك، فلنتظاهر باعتناق الإسلام، ولنوهم الناس أننا أحرار الفكر ولذلك تركنا ديننا إلى غيره! فلما وجدنا هذا الغير لا يصلح تركناه لعلة فيه لا لعلة فينا!! " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ". وأظهروا إصرارهم على كره الوحى الجديد، وانتقال الرسالة بعيدا عن العبريين، فقالوا: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.. " فلا يجوز أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولا أن يشابهكم فى تلقى الوحى. وظاهر أن القوم كارهون لما صنع الله، وضائقون بمشيئته فى إيثار العرب، واختصاصهم بالوحى الجديد، وهم يحاولون إرغامه - سبحانه وتعالى - على تغيير أقداره، والعودة إليهم هم! وكان الجواب الحاسم " إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" . لقد التقت فى بنى إسرائيل رذائل الصلف والقسوة والغرور، وهى رذائل قد يخفيها الضعف فتكون حقدا دفينا، وقد يبديها الثراء والغلب فتكون عدوانا مبينا، وقد
دفعهم هذا وذاك إلى

ص _032
التقوقع فى حاراتهم بعواصم الشرق والغرب، وإكنان الشر للناس مع الاستعلاء والاستخذاء جميعا..!! ونقرأ فى سورة آل عمران علة ما يفعلون ".. ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون" . والأميون جمع منسوب إلى الأمة أو إلى الأم، فإن كان إلى الأم، بمعنى العجز عن القراءة، فالمقصود العرب لشيوع الأمية فيهم، وإن كان منسوبا إلى الأمم فالمراد الناس كلهم، وهذا الشرح أدنى إلى خلائق اليهود ومزاعمهم التى يتدارسونها فى توراتهم وتلمودهم، والتى جعلت دول أوروبا كلها تتنكر قديما لهم، وتنزل نكالها بهم، وكان هتلر آخر هذه السلسلة من الحكام الباطشين، ولن يكون آخر من يؤدبون المجرمين! وقد شرح القرآن الكريم أن العلاقة بين الناس وربهم لا تقوم على الدعوى الكذوب، بل على الخلق العالى، على الوفاء والتقى " بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين " . وقد تساءلت: إذا كان النصف الأول من سورة آل عمران يقوم على الحوار مع أهل الكتاب وقصص أحوالهم فلماذا جاء ذكر الحج هنا؟ ولماذا جاء الحديث قبله عن الأطعمة المحرمة والمحللة؟؟. وبعد إعمال الذهن وإدامة التدبر لم أعد بطائل، فقلت: أستفتى صاحب المنار وأتعرف على رأى الأستاذ الإمام، فوجدت الجواب السائغ! قالوا : كأن اليهود - والإسلام يعرض عليهم - يتساءلون: كيف نتبع دينا يستبيح الأطعمة المحرمة علينا ونحن نبتعد عنها فلا ترى قط على موائدنا؟. وأجيبوا بأن الحظر الذى يحترمونه كان موقوتا وطارئا، لقد كانت الأطعمة كلها حلا عليهم، فلما فسقوا واستمروا العدوان حرمت عليهم عقابا من الله... وقد فصل الله ذلك فى سورة الأنعام وختم التحريم بقوله: ".. ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون * فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين". والمعروف أن رسالة عيسى بدأت بالتخفيف من آصار اليهود، وورد ذلك فى قوله تعالى على لسان المسيح "ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم "

ص _033
فلما نزل القرآن الكريم عاد بالتشريع إلى أصله، فلم تحرم إلا أنواع الميتة، ولحوم الخنازير، والدماء المسفوحة، وما أهل لغير الله به، أما ما وراء ذلك فحلال. وفى هذا يقول تعالى : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.. " الخ. وكذلك الكلام فى شأن القبلة، فإن البيت الحرام فى مكة المكرمة هو القبلة الأولى والأخيرة للناس كافة " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " . وإذا كان بيت المقدس لظروف عارضة قد صار قبلة، فقد زالت العوارض ورجعت المياه إلى مجاريها، واستؤنف التكريم للبيت الذى أسس حصنا للتوحيد، وكان موضع التقدير من جملة الأنبياء السابقين... وندع الفروق بين شتى الشرائع لنقرر أن التربية الصحيحة على مهاد من العقيدة المكينة هى أساس الارتقاء البشرى على اختلاف العصور، وقد ذكرت سورة آل عمران ذلك فى أولها، قال تعالى : " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" . إن هذه الغرائز لابد منها لقيام الحياة، فلو لم تكن الغريزة الجنسية مثلا ما اتصلت قوافل الأحياء على ظهر الأرض، وكذلك سائر الغرائز الأخرى، والمهم ألا تتجاوز طور الاعتدال، وألا تضل سواء السبيل. والإسلام أباح ما يفيد وحرم ما يضر، وبنى قواعد الحلال والحرام على الإيمان والعمل الصالح، وشرع من عناصر التقوى ما يستبقى العلاقة قوية بالله واليوم الآخر! وقد استمعت إلى خطاب زعيم كبير يحذر من مرض " الإيدز " فرأيته يوصى باستعمال وقاء معين عند المباشرة الحرام، إنه يائس من العفة فلا يوصى بها لاستحالتها فى منطقه، وهى مستحيلة مع فقدان اليقين بالحى القيوم. وسوف يبقى أتباع الأديان الشكلية يلقون العنت من غرائزهم التى فقدوا السيطرة عليها، حتى يفهموا قول الله تعالى:
ص _034
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 02-02-2014, 09:44 AM   #3
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

" قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ". لقد تصدرت هذه الآية فى أوائل السورة، لتقول لأهل الكتاب: إن النجاة عقيدة أساسها " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " ثم تربية تقر الطبائع البشرية فى حدود الطهر، وتكره الإفراط والتفريط.. وتجعل البصر بالحياة الدنيا بصيرة تهدى للحياة الآخرة، وتمضى على الصراط المستقيم. ******** لم يتصل بمريم أحد من البشر عندما وضعت وليدها عيسى، ولما كان بعض الناس يقولون: إن عيسى ابن الله فإن هذه القالة تدفع إلى وهم لا أصل له، هو أن بين الله - سبحانه وتعالى - وبين مريم صلة خاصة، كان عيسى ثمرتها، وهذه جهالة غليظة بمكانة الألوهية، وما ينبغى لها من تقديس.. ويستحيل أن يكون الله والدا وفق هذا التصور الهابط، ولذلك قال : " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " . نعم كان ميلاد عيسى خارقا للعادة! شاء الله - وقد جعله كذلك - أن يجعله لونا من الخوارق الكثيرة التى يوقعها بين العباد ليعلمهم أنه يحكم قانون السببية، ولا يحكمه قانون السببية، ولذلك حكى قصة مريم وابنها، بعد قصة زكريا وزوجته، فهى - أيضا - لون من خوارق العادات، ولا دلالة لوقائعها على شئ فوق ذلك! كانت مريم مولودا غير متوقع لأمها التى نذرت ما فى بطنها خادما للمسجد الأقصى، يحرس شعائره، ويقيم فى ساحته عبادة الله، ويقود جموع المؤمنين " رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " لكنها فوجئت بأن الوليد المرجو جاء أنثى! وما تصنع أنثى فى تحقيق آمال أمها، وأداء وظيفة لا يختار
لها إلا الكملة من الرجال؟. ليس المولود الذكر الذى أملت فيه كهذه الأنثى التى يغلب أن تحتاج إلى الحماية! ولم تكن الأم المفاجأة تدرى أن ابنتها ستضع إنسانا وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين! وأنها

ص _035
ستتولى ـ فى مهده ـ حمايته، كما حمت أم موسى موسى، وكما حمت والدة محمد محمدا!! إن من الغرائب المثيرة أن يكون ثلاثة من أولى العزم قد كفلتهم نساء ضعيفات، وأن يرعى كبار الأنبياء فى طفولتهم نساء مجردات من القوى المادية، معتمدات على رب السماء... إن من النساء من تبلغ القمة بنبلها وإيثارها وإيمانها، ولكن الأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا القليل ". لقد ناجت امرأة عمران ربها قائلة: " رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " . وتولى زكريا كفالة مريم، وكان رجلا قد كبرت سنه، ووهن عظمه، ولديه امرأته العاقر، التى لم ترزق من قبل بولد، وكان زكريا محزونا لأنه لم يرزق من يرث عنه قيادة بنى إسرائيل، مع سوء ظنه بهم، وخشيته على الشعب بعد وفاته. بيد أنه تحامل وصبر، وشرع يرعى الابنة التى انضافت إلى أسرته .! وأحس زكريا أن جديدا يقع فى بيته، وأن أرزاقا تهبط من الغيوب على هذه الابنة الغريبة التى كفلها " قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" وكانت هذه الإجابة مشعلة لكوامن العبودية فى قلب زكريا، فناجى ربه، إنك خرقت العادات لهذه البنية، ورزقتها من السماء بقدرتك التى لا يعجزها شئ، فلا تحرمنى أنا فضلك الأعلى..! إنك تستطيع أن تجعل الزوجة العقيم خصبة، وأن تجعل الزوج العاجز قادرا، وأن ترزقنا ابنا تقر به عيوننا " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله... ". لقد عادت الحياة إلى الزوجين اليائسين: المرأة العاقر أنجبت - وما كانت لتلد - والزوج العقيم الكهل عاودته القدرة فأحبل امرأته .

ص _036
إن الله إذا أراد كانت الأسباب طوع أمره، وهو يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء. فى هذه البيئة القانتة المسارعة فى الخيرات نمت وترعرعت مريم، إنها بيئة تحيا فى رعاية السماء أكثر مما تحيا وفق قوانين الأرض، فلا غرابة إذا جاءت الملائكة مريم بعد نضجها تخاطبها بما لا يخطر لها ببال.. " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " . وهكذا دخلت مريم فى تجربة هائلة، وكلفت بما توْجل منه كل بكر، وما تمنت معه الموت، ولكن كلمة الله تمت، وولد عيسى بن مريم على هذا النحو المثير! وبعث رسولا إلى بنى إسرائيل كى يقيم عوجهم، ويكسر غرورهم، ويلزمهم العبادة المتواضعة، ورقة القلب مع الله ومع الناس.. إن الناس كانوا يحترمون بيت النبوة الذى نبتت فيه مريم، ويقدرون ما عرف به ابنها من نبل وفضل، وما اقترن بسيرته من نعمة ورحمة! أما بنو إسرائيل فقد كان لهم موقف آخر... جحدوا الخوارق التى أجراها بين أيديهم، ورفضوا الاعتراف برسالته، وضموا إلى كفرهم أمرا آخر من أشنع المناكر، فزعموا أن ميلاد عيسى لم يكن معجزة سماوية، بل هو جريمة بشرية ارتكبها مع مريم خطيب لها يدعى يوسف النجار! وبذلك جمعوا بين الكفران والبهتان... واستنجد عيسى بأهل الخير والصدق فنجده الحواريون والتفوا حوله يقولون : " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين" . ومضى اليهود فى غوايتهم وسعايتهم، يغرون بعيسى وأتباعه، وكان عيسى قد بلغ دعوته وأذى رسالته فتوفاه الله، وأراحه من مكر اليهود، ورفع درجته فى عليين! ومع أن كثيرا من الناس يرون أن عيسى قد رفع حيا إلا أنى أميل إلى رأى الفقهاء الظاهريين فى أنه مات كغيره من الناس الذين تدركهم منيتهم، وإن كان موته الطبيعى لا يمنع أن يعود مرة
ص _037
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 02-02-2014, 09:45 AM   #4
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

أخرى إلى دنيا الناس - كما يقول ابن حزم - لينضم إلى المسلمين فى تقرير وحدانية الله، ويدعم صفوفهم وهم يقاتلون أعداء الله. مثله فى ذلك مثل صاحب القرية الذى قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه" . أو مثل أصحاب الكهف الذين رقدوا قرونا ثم عادوا إلى الحياة!! والخطب سهل، والخلاف قريب، المهم الاعتقاد بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس إلها ولا ابن الله.. بيد أن سورة آل عمران حكت لنا قصة وفد كنسى قدم المدينة يجادل الرسول فى العقيدة التى قررها، ويقول له: إذا كان بشرا فمن أبوه؟ إن الله هو أبوه، وإنه ليس بشرا إلا فى الصورة وحسب ! وجادلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن فقدان الأب البشرى لا يعنى بنوته لله. ولو كان الأمر كذلك لكان آدم أولى بالألوهية، فهو لا أب له ولا أم "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين" ولكنهم أصروا على رأيهم، وقاوموه بحماس! فماذا يصنع لهم؟ اقترح عليهم أن يجتمعوا مع أهل الإسلام فى صعيد واحد، وأن يستنزلوا لعنة الله على أكذب الفريقين " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم" . وقد رفض القوم هذه المباهلة، وبقى كلا الفريقين إلى يوم الناس هذا على دينه، ويبدو أن عيسى وحده عندما ينزل آخر الزمان سوف يحسم الموقف، ويبين لعابديه أنهم مخطئون، وأن الملكوت كله ليس له إلا سيد واحد هو الله الواحد القهار.
ص _038
قبل أن يبلغ الحديث عن أهل الكتاب نهايته، شرعت السورة فى الكلام عن معركة أحد، وهى معركة انهزم فيها المسلمون هزيمة موجعة، وأصابتهم فيها خسائر فادحة..! والمعركة مع عبدة الأوثان الذين سبقوا أهل الكتاب فى مخاصمة الإسلام، ومطاردة أتباعه، وقد لاحظنا أن المسلمين قلما قابلوا أعداءهم فى جبهة واحدة! كانوا على امتداد تاريخهم حتى هذا اليوم يقاتلون فى جبهتين!! ويبدأ الكلام عند قوله تعالى لنبيه: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم" إلا أن السياق ينقطع فجأة ويبدأ حديث عن تحريم الربا، وعن الإنفاق فى السراء والضراء، وعن الإسراع إلى التوبة بعد مقارفة ذنب ما. ثم يتصل الكلام بعد ذلك تعليقا مسهبا عن نتائج المعركة، يمتد حتى آخر السورة!. ونتساءل: ما السر فى هذا الاعتراض؟ والذى يبدو أن الهدف إصلاح الجبهة الداخلية وتطهيرها من كل انحراف حتى تكون أهلا للنصر، فالمعارك الدينية ليست انتصارا لأشخاص قدر ما هى انتصار لمبادئ طاهرة، ومسالك قويمة.. وتبتعد قصة الخصومات الشخصية تماما عن جو الحروب الدينية عندما يقول الله لنبيه: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " . من يدرى قد يكون خصوم الأمس واليوم أصدقاء المستقبل إذا اصطلحوا مع الله ودخلوا فى دينه؟ إن الحب والبغض لله وحده. وليست بينكم وبين أحد ثارات خاصة أو عداوات شخصية! ولهزيمة أحد حكمة واضحة، فإن نصر بدر فتح الطريق أمام المغامرين وطلاب المصلحة كى ينتموا للدين الجديد، فظاهر أن المستقبل له! ألم يقل كبير المنافقين عبد الله بن أبى بعد النصر المفاجئ فى بدر: هذا أمر قد توجه!! ورأى أن ينضم بأتباعه إلى المسلمين؟. لذلك يقول الله تعالى: " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب.. " . لابد من هزيمة تكشف العدو من الصديق، وتفرز طلاب المنافع والوجاهات، وتستبقى أهل الإخلاص الذين يظاهرون نبيهم مع البأساء والضراء، وينصرون ربهم مهما تقلبت الليالى!..

ص _039
والناس طائفتان: طائفة متجردة وفية للحق وإن أصابه ما أصابه، " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " لا يسعون إلا لمآربهم ولا يدورون إلا حول أشخاصهم "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء"؟ إنهم غاضبون لأن مقترحاتهم لم يؤخذ بها، ولأن أشخاصهم لم تكن موضح التقديم والتقدير!! وأمثال هؤلاء لا تنتصر بهم عقيدة! ولم تجيء هزيمة أحد من سوء التخطيط كما يظن البعض، بل جاءت من التفريط فى إنفاذ الأوامر الصادرة، ولو أدى كل جندى دوره المرسوم له ما وقع المكروه، ولكن البعض نسى واجبه المكلف به لسوء تصرف منه، أو لطمع طارئ عندما تحقق للمسلمين النصر فى المرحلة الأولى من المعركة، وبدت أكوام الغنائم..!! " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة... " أى تغير الموقف فتغيرت النتيجة.. "ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين". وعندما استغرب المؤمنون الهزيمة الفادحة، وبوغتوا بآثارها السيئة، تساءلوا: كيف وقع هذا؟ ولماذا؟ فكان التعليق الأعلى " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير" . إن هزيمتكم فى أحد نصف هزيمة المشركين فى بدر! فكفتكم - برغم ما حدث - أرجح، ومع ذلك فأنتم وحدكم المسئولون عما وقع لكم، وكان من الممكن أن تتجنبوه بالطاعة المفروضة على كل جندى، والتجرد المطلوب من كل مؤمن..!! ثم بدأ العزاء البليغ عن الأحداث المؤلمة، بدأ بقوله تعالى: " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " . إن الباطل لا مستقبل له! وقد قص الله على عباده تواريخ أمم مضت، هلكت جميعا لأنها تشبثت بالباطل وأصرت عليه..
ص _040
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 02-02-2014, 09:45 AM   #5
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

وإذا كانت قريش قد انتصرت فى هذه المعركة، فهو انتصار عابر زائل، وسوف تتغير هذه النتيجة حتما، والمستقبل للإيمان وحده. على أن انتصار المؤمنين يحتاج إلى أمرين: صدق النية وحسن الأداء. ولا يغنى أحد الأمرين عن الآخر. والمسلمون فقراء إلى معرفة الأمر الثانى وتوكيده، فإن بعضهم يتخيل أن الصلاح وحده يحقق النتيجة المرجوة، كأن الملائكة ستنزل لجبر القصور فى إعداد المؤمنين للمعركة أو سوء خوضهم لها، وهذا بعيد. ابذل ما لديك كله إيمانا وعملا، إخلاصا ومهارة، ثم ارتقب الخير ولو كانت قواك أقل، فقد بذلت ما تملك، ولن يخذلك الله بعدئذ... وقد راقبت معارك كان فيها الخصمان كالملاكمين المتكافئين، لا ينهزم أحدهما إلا بعد عشر جولات أو أكثر.. وراقبت أخرى ينهزم فيها أحد الخصمين بالضربة القاضية على عجل... وشر المعارك أن يكون المرء معتلا، إذا لم يقع لقوة عدوه، وقع لخور فى نفسه!! أو أن يكون سيئ الحظ فتزل قدمه، أو يختلج عرق فى بدنه فيتراجع!! ومعارك المسلمين على امتداد التاريخ تتعرض لهذه الأنواع، على أن العلة الدائمة لهزائمهم لا تجئ من كلب العدو عليهم قدر ما تجئ من تفرق كلمتهم، واختلال صفوفهم، فمصائبهم من أنفسهم دائما، فإذا صحوا من غفوتهم رجعت لهم الدولة. وهذا ما أكدته السورة هنا " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين " . وقصة الحياة حكاية لهذا الصراع الدائم بين مختلفين فى الرأى والسلوك " ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" فالشر ابتلاء للخير، والقبح امتحان للجمال، واللؤم امتحان للشرف " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " . كان ربك قديرا أن يهزم الباطل ويخزى أهله، فما عمل أهل الحق عندئذ؟ وما جهادهم الذى يلقون به ربهم؟ " ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " . 40
ص _041
ومضت سنة الأنبياء وأتباعهم من صدر التاريخ على هذه الوتيرة، فما قام لله معبد ولا عمر له مسجد إلا بكفاح المؤمنين وبذلهم! " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره.. " . وقد ذكر الله أتباع محمد بهذه الحقيقة التاريخية، عندما عزاهم فى مصابهم بأحد فقال : " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " . ومضت السورة تداوى الجراح وتنشط العزائم، وتعيد للمؤمنين تماسكهم وثقتهم! ولا يجوز أن ننسى هنا أن دور الهزيمة فى معركة أحد كشف عن معادن بالغة النفاسة، فهناك رجال ركلوا الدنيا بنعالهم ومضوا إلى الله لا يلوون على شئ..!! وهناك رجال ثبتوا فى مواقف ميئوس منها لا يحملهم على الثبات إلا الوفاء إلى آخر رمق، وهناك نساء انطلقن إلى معارك ملؤها البطولة والفداء، يتقاعس عنها الواهنون، وتطير إليها أولئك المؤمنات الصامدات.. وهناك من رزق الشهادة وهو لاغب يحمل أعباء الكفاح برجولة رائعة لا تعنيه إلا نصرة الله ورسوله. وهناك وهناك، إنها معركة حفرت ذكرياتها فى ضمائر المؤمنين فما تنسى أبدا.. وبقى ذكر أحد فى قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى آخر عمره، فهو يصلى على شهدائه ويقول: "أحد جبل يحبنا ونحبه ". الشهادة منزلة رفيعة من الرضوان الأعلى، يصطفى الله لها من يشاء من عباده، ولذلك قال فى هذه السورة : "ويتخذ منكم شهداء.... " والملحوظ أن المختارين لهذه المكانة مؤمنون همهم الأكبر إعلاء كلمة الله، والإصباح والإمساء فى دعم الإسلام وحماية بيضته ورد العدوان عنه. وقتلى أحد نماذج فريدة لهذا الخلق الواثق الواضح، تدبر سيرة مصعب بن عمير أنعم فتيان مكة، الذى اعتنق الإسلام فحرم ثروته وعضه الفقر بنابه، فإذا هو يلبس ثوبا من جلد الضأن، بعد أن كان يخب فى الحرير!

ص _042
ثم هاجر قبل المهاجرين مكلَّفا من رسول الله بنشر الإسلام فى المدينة، فلم يدع بيتا ذا شأن حتى أدخله فيه، وها هو ذا يقتل فى أحد غريبا، عليه ثوبا لا يكمل كفنا لجثمانه الطاهر، فتغطى قدماه بالإذخر!! وتدبر سيرة عبد الله بن حرام، وكان أبا لست بنات وغلام واحد ـ هو جابر بن عبد الله ـ فقال لابنه: لا تترك الفتيات الست دون رجل معهن!. ولا تطيب نفسى بأن يخرج الرسول للقتال وأنا جالس فى بيتى! فابق أنت معهن، وأنا ذاهب للقتال، وذهب الرجل ليستشهد فى المعركة! لقد كان وضع المسلمين مكشوفا بالغ الحرج بعد ما ترك الرماة مواقعهم، ولذلك قتل منهم سبعون بطلا فى دفاع كئيب شاع فيه أن الرسول نفسه قتل..! لكن قريشا وجدت أنها تصطدم بحائط من الصلب، وأنها لن تبلغ أكثر مما بلغت، فجمعت رجالها وعادت أدراجها إلى مكة.. ونزل فى مصاير الشهداء قوله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " فوصفهم بخمس صفات " (1) بل أحياء (2) عند ربهم (3) يرزقون (4) فرحين بما آتاهم الله من فضله (5) ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون" . إن الله أعلم أولئك الشهداء أن إخوانهم وأولادهم على درب الحق، وأنهم أدوا واجبهم فى نصرة الله ورسوله، وأنهم - عن قريب - سوف يلحقون بهم فى دار النعيم. ومن المفيد أن نذكر ما فعل المسلمون بعد الهزيمة العارضة، فقد جمعوا فلولهم، وتحاملوا على جراحهم، وانطلقوا فى طريق مكة يطاردون جيش الكفر الذى كان يمشى متباطئا يحدث نفسه بعودة لاستكمال ما بدأ، فلما شعر بالمسلمين قادمين سارع فى العودة من حيث جاء. وعاد المسلمون كما وصف الوحى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم" . وينقطع التعليق على غزوة أحد مؤقتا، ليتصل الحديث مرة أخرى عن اليهود، ونلاحظ هنا أن السياق صار مزدوجا إلى آخر السورة، فهو تارة يتناول اليهود، وتارة يتناول عبدة الأوثان، ولا عجب فجهاد الدعوة يتناول الفريقين على سواء كما قال جل شأنه
ص _043
يتبع...
__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 02-02-2014, 09:46 AM   #6
أبو عادل
عضو متألق ومشرح للأشراف على الأقسام الإسلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: المملكة المغربية
المشاركات: 2,446
معدل تقييم المستوى: 16
أبو عادل is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

" لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" . ويبلغ اليهود فى كفرهم حدا من الإسفاف يحنق الحليم! فالقرآن يطالب المؤمنين بالإنفاق فى سبيل الله، سواء كان هذا الإنفاق دفاعا عن الحق أو كان إسعافا للفقراء والمساكين. وهو يفرض ذلك فى أسلوب عالي يغرى بالبذل، فى أشرف صور البيان " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون " . فماذا يقول اليهود عندما يسمعون ذلك؟ يقولون: إن الله فقير يقترض من العباد!! ويقولون: إنه ينهى عن الربا ويتعامل به!! " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق " . والواقع أن هذا تعليق قوم ليس فى أفئدتهم إيمان ولا تقى، يعيشون بمواريثهم عيشة خسيسة! ويستقبلون الإيمان الغض بأحقاد بالية وسخائم محقورة.. ولا يستغرب فى مجتمعهم أن يعبد المال وحده، وأن تطلب الدنيا وتنسى الآخرة!! وأن يعاملوا غيرهم من البشر وهم صرعى هذا الدنايا.. اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار! فهل هذا الاختيار تعليم للأمم وإحسان إليها، أم هو الاستعلاء عليها ثم استغلالها واستنزافها؟. إن التاريخ اليهودى ليس تاريخ عطاء بقدر ما هو تاريخ صلف وغصب!! وليس عرب اليوم هم الذين يقولون ذلك، بل تقوله شعوب أوروبا وأمريكا التى عانت قديما وسوف تعانى مستقبلا.. وفى هذه السورة تلخيص لسيرة اليهود " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم".
ص _044
وتنقلنا سورة آل عمران إلى جو آخر بعيد عن الماضى وذكرياته الحلوة والمرة... إننى إنسان أعيش فى هذا العالم، وأعرف قواه ونواميسه وخيراته ودلالاته! ألا يقودنى هذا إلى الله والتسبيح بحمده، والإقرار بمجده. لأترك جانبا الخلاف بين الأديان وأتباعها، ولأعول على عقلى الذى سأحاسب به! ولأفكر فى مصيرى بعد هذه الدنيا! لماذا أنسى ربى وأبتعد عن صراطه المستقيم؟ يجب أن أنعطف إليه وألوذ به! وها قد ظهر إنسان يصيح بأهل الأرض أن يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا بربهم. لماذا الصد عنه؟. ألا يستحق هذا الداعى المتجرد أن أصيح إليه، وأتدبر دعوته " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار " . إن الله يجيب هذا الدعاء بأنه لا يضيع عمل عامل من الإنس أو الجن، من السود أو البيض، لا يهم العنصر أو النسب، المهم العمل الصالح. ماذا يتعاظم الناس عن الإيمان بإنسان يدعو إلى الصلاح على ضوء من الخشوع لله والاستعداد للقائه؟ ماذا فى دعوته يؤلب القلوب ضده، أو يحرض الأحزاب على قتاله؟. لكن العميان من عبدة الأصنام والمتعصبين من أهل الكتاب تألبوا عليه، وقاتلوه.. واضطروا أتباعه إلى هجرة وطنهم وتحمل أنواع الأذى فى سبيل معتقدهم، فليكن جزاؤهم كما وصف الله " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار.. " . إن الكفار قد تعلو رايتهم، وتنتصر جيوشهم، ليكن، فذلك إلى حين " لا يغرنك تقلب الذين
كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " . وقد غلب المشركون يوما فى أحد، فماذا كان؟ توقف سيل الحق قليلا، ثم مضى تياره من بعد عاصفا لا يقفه شئ، والعاقبة للتقوى..! وختمت سورة آل عمران بعد هذا العرض المفصل بآيتين، أولاهما تتحدث عن أهل الكتاب،

ص _045
وما ينبغى منهم بإزاء النبى الخاتم " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم " . والآية تتضمن إلى آخر الدهر دعاء إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى أن يستمعوا إلى النبى الخاتم، ويؤمنوا بما جاء به. أما الآية الأخرى فهى قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " . هذا توجيه للمسلمين الذين اتبعوا محمدا أن يصبروا على تعاليم الحق الذى شرفهم الله به، وأن يكونوا أصبر من غيرهم فى هذا المجال، وأن يكونوا فى رباط دائم حول ثغورهم وأراضيهم حتى لا تدخل عليهم من أقطارهما كما فعل الاستعمار الأخير! هذا نداء لنا، فهل نلبى النداء؟.
ص _047



مأخوذ من كتاب نحْوَ تفسير مَوْضوعيّ.

الشيخ محمد الغزالي.



__________________
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكم ونفعكم بكم، ووفقني وإياكم لما يحب ويرضى.
أبو عادل غير متواجد حالياً  
قديم 08-29-2023, 11:49 AM   #7
ابو انس السلفى صعيدى
عضو متألق
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 687
معدل تقييم المستوى: 12
ابو انس السلفى صعيدى is on a distinguished road
افتراضي رد: سورة آل عمران.

اللهم اجعل القران ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وذهاب احزاننا
ابو انس السلفى صعيدى غير متواجد حالياً  
إضافة رد

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كم من آية منسوخة في سورة آل عمران؟ أبو عادل القرأن الكريم 5 12-29-2023 01:20 PM
ما تيسر من سورة سورة آل عمران 1- 7 تلاوة الشيخ محمد صديق المنشاوي وأفوض أمري إلي الله تلاوات وحفلات الشيخ محمد صديق المنشاوى 1 01-11-2014 10:04 PM
حمل و استمع الى سورة آل عمران بصوت 73 قارئا مسلم التونسي حمل و استمع الى السورة التي تريد بصوت العديد من القراء 9 12-02-2013 10:39 PM
سورة آل عمران فضائل ولطائف المحكم والمتشابه مسلم التونسي القرأن الكريم 1 05-04-2011 07:10 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة للمسلمين بشرط الإشارة لشبكة الكعبة الإسلامية
جميع الحقوق محفوظة لـ شبكة الكعبة الإسلامية © 2018